صندوق النقد الدولي.. يقرض مصر أزمتها الأعمق
تربعت وجوه الحكومة المصرية إلى جانب رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لتعلن للمصريين بتاريخ 11-8-2016 الاتفاق على قرض الصندوق الثالث والأعلى لمصر خلال 40 عاماً والبالغ 12 مليار دولار..
تقترض مصر لأنها غارقة بالدين! فتخفيض الدين العام الحكومي هو ركيزة الأهداف من عملية الإقراض، حيث أشار رئيس بعثة صندوق النقد إلى أن تخفيضه من 98% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الحالي إلى 88% في السنة المالية 2018-2019، هو (هدف أساسي لعملية الإقراض)..
القرض البالغ 12 مليار دولار سيعطى خلال ثلاث سنوات، بدفعات سنوية كل منها 3 مليار دولار، مقابل 1,5% فائدة، لتضاف إلى مصاريف الفوائد في الموازنة المصرية التي تبلغ ربع الإنفاق العام، ما بين سداد فوائد الدين العام الخارجي، والداخلي عبر تمويل الموازنة من سندات الدين..
القرض من الصندوق ليس الهدف، بحسب حاكم المصرف المركزي المصري، بل هو مساندة من المنظمة الدولية، لتعطي مصداقية للإجراءات النيوليبرالية الحكومية التي ستتوسع وتشتد، وهي المستقاة من روح الإصلاحات الهيكلية للمنظمات الدولية وفي مقدمتها الصندوق، فما هي الإجراءات؟!..
ما المقابل؟!
تسلسل الإجراءات المطلوبة في الاتفاقية مع البنك، واضحة ومصاغة في التصريحات والمدونات التي كتبها رئيس بعثة الصندوق إلى مصر، فهو ينطلق بوضوح من تعويم العملة المصرية، التي تعتبر تقلباتها واتجاهها الهابط الذريعة، نحو (ضرورة تحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة، عبر تركها لتتحدد في السوق) دون حماية من الاحتياطيات وعبر السياسات النقدية والاقتصادية المصرية. وقد بدأ فعلياً تخفيض قيمة العملة المصرية بشكل واضح في هذا العام، وخسرت 11% من قيمتها مقابل الدولار خلال 2016.
النقطة التالية هي: مجموعة الإجراءات التي تهدف إلى مواجهة عجز الموازنة العامة: ولهذا محدداته فضبط النفقات يعني تخفيض الإنفاق الاجتماعي وإزالة منظومة الدعم، والخصخصة، عبر الدعوة لتوسيع مشاركة القطاع الخاص في إدارة المنشآت العامة. ومصر كانت السباقة منذ السبعينيات لخصخصة 49% من الشركات العامة المملوكة للدولة، وفي رفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية، عندما تم الإعلان عن رفع أسعار مجموعة مواد، أعقبها احتجاجات في عام 1977 أدت إلى التراجع عن القرارات، إلا أن الرفع تم لاحقاً وبالتدريج.
ومع ذلك لا يزال في مصر ما يمكن تقليصه، فحصة القطاع العام لا تزال 35% من الناتج في عام 2015، ولا يزال الدعم يشمل الوقود والكهرباء وسلع غذائية رئيسية، بنسبة 27% من الإنفاق على الحماية الاجتماعية ومن ضمنها الدعم. وحصة الدولة من الإنفاق والدعم هي المستهدفة في خطة التقشف القادمة، ما سيؤدي - بنتيجة رفع الدعم - إلى زيادة سريعة في معدل التضخم البالغ 14%، وزيادة في البطالة في شركات القطاع العام التي توظف أكثر من 6,5 مليون عامل. وبالمقابل فإن جانب زيادة الإيرادات العامة يركز على الوفورات من تقليص النفقات، إضافة إلى ضريبة من نوع واحد وهي ضريبة القيمة المضافة، وهي الضريبة على المبيعات أي على المستهلكين، وذات التأثير السريع على رفع المستوى العام للأسعار، أي زيادة الأرباح وتقليص الأجور. ومصر شهدت تعديلات في هيكلية ضرائبها التصاعدية منذ عام 2004، عندما أصبحت أعلى نسبة لضريبة الأرباح لا تزيد عن 20%، وأصبحت الضرائب لا تزيد عن 12% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تهرب ضريبي يبلغ 8.6 مليار دولار تقريباً.
أي أن مصر ستقوم عملياً، بتقليص كبير في الدعم الاجتماعي ودعم الأسعار، وتقليص الموارد العامة بمزيد من الخصخصة، حيث يتم الحديث عن طرح أسهم شركات عامة في البورصة، ليتم تداولها، أي عملياً عرضها للبيع، وستقوم بالمقابل برفع مستوى الأسعار عبر ضريبة القيمة المضافة، والنتيجة ستكون تدهور اقتصادي سريع، نتيجة تدهور الطلب مع تخفيض الإنفاق ورفع مستوى الأسعار، في النفقات والإيرادات الحكومية، وزيادة العجز، في قيمة العملة المصرية، التي ستترك ليتم تحديدها في السوق..
إذاً على ماذا تُعوّل القوى الاقتصادية المصرية التي تتخذ هذا النوع من الإجراءات؟! الهدف من هذه الإجراءات القاسية بحسب تعبيرات الحكومة المصرية، هو الحصول على دولارات الصندوق، وإجراء التغييرات التي ستحقق النمو الموعود عبر طريقة رئيسية وهي جذب الاستثمارات الأجنبية. فهل ستؤدي دفعات الدولار إلى تحقيق النمو في مصر؟!
رهن مصر للاضطراب العالمي؟
إن مصر وفق النموذج النيوليبرالي المتبع في إدارة اقتصادها منذ السبعينيات ترهن نموها للاقتصاد الدولي، وهذا إن كان قد حقق نمواً وهمياً في سنوات التسعينيات من تضخم القطاع المالي والسياحي، ومن ريع قناة السويس، فإنه قد أدى إلى خسارة مصر أهم مؤشرات استقلالها وهو أمنها الغذائي القريب من الصفر، بعد أن أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح منذ عام 1984.
أما استمرار هذا التعويل على الخارج في تنمية بلاد من 91 مليون نسمة وفقر مدقع يشمل أكثر من 20% من سكانها، وفي ظرف الأزمة الاقتصادية العالمية فهو ضرب من الجنون.. حيث يظهر تراجع الريع من التجارة الدولية عبر قناة السويس، بتأثير التجارة العالمية المتراجعة اليوم بشكل واضح، بعد أن انخفضت إيرادات القناة هذا العام على الرغم من خطة التوسيع وإنشاء التفريعة المكلفة. كما تعول السياسات النيوليبرالية على عودة تدفق الدولار من النشاط السياحي، في بلاد تهددها الفوضى والاضطرابات باضطراد، وفي عالم يتراجع فيه الدخل الحقيقي لشرائح واسعة من السكان، وتحديداً من متوسطي الدخل في الدول المتقدمة..
أما الأهم، أن التعويل الأساسي هو على تحقيق التراكم الاستثماري والنمو والتشغيل في مصر عبر الاستثمار الأجنبي، في الوقت الذي تتراجع فيه التدفقات الاستثمارية عالمياً منذ عام 2014 بشكل واضح وبنسبة 16%، حيث كان للمنطقة العربية حصة هامة من التراجع لتنتقل من 10% إلى 7% في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية.
هذا وينبغي التذكير أن أهم مصادر تدفق رؤوس الأموال إلى مصر، هي دول الخليج العربي، التي تئن اليوم تحت عبء أزمتها المالية، وتنتقل من دول فائض إلى دول عجز وتقشف، مع أزمة النفط المتقدة.
وحتى إن فرضنا أن مصر نجحت في جذب المزيد من تدفقات الاستثمار إليها، في خرق للسياق الاقتصادي للأزمة العالمية اليوم، فما الذي يمكن أن تحققه هذه الدولارات وسط الإجراءات النيوليبرالية؟
ماذا حققت المليارات السابقة؟!
يمكن الاستدلال على نتائج تدفق مليارات الدولارات على الاقتصاد المصري، من خلال تجربة مصر ذاتها، فدفعات الأموال التي تم تقديمها لمصر خلال الأعوام الماضية رقم هام، قد لا يتحقق عبر الاستثمار الاجنبي.. حيث حصلت مصر بعد عام 2011 على 29 مليار دولار مساعدات من ست دول: السعودية والإمارات والكويت وقطر وليبيا وتركيا، 22,5 مليار منها بعد عام 2013، يضاف إلى ذلك أن مصر سجلت تدفق 4,8 مليار دولار استثمار أجنبي مباشر إليها في عام 2014، ومع ذلك فإن هذه الأموال لم تجد طريقها لتحسين الواقع الاقتصادي والاستثماري في مصر، ولم تؤدي إلى حدوث تراكم ونمو وتشغيل. لا بل فاقمت من حجم المشكلة، فرغم أنها مساعدات أو استثمار وليست قروض، فقد ترافقت مع تسارع كبير في توسع الدين العام الحكومي الذي انتقل من 76.6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2010-2011، إلى 90.5% في العام 2013-2014، ووصل إلى 98% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الحالي.
عملياً ضخ الأموال في شريان الاقتصاد المصري لم يتوقف ولكنه لم يقم يوماً بتحسين أوضاع مصر الاقتصادية عموماً والمالية تحديداً.
مصر خسرت مصادر ثروتها
النيوليبرالية في مصر وظفت وستوظف التدفقات الاستثمارية في القطاعات التي لا تتيح لمصر خلق ثروة جديدة، ونمواً وتشغيلاً حقيقيين. حيث أن كلاً من الزراعة والصناعة التحويلية في مصر لم تحصلا إلا على نسبة 7% من مجمل الاستثمار في عام 2011، بينما كانتا تحصلان على نسبة 25% في عام 1982.
والنتيجة كانت أن خسر القطاعان مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، ليتم التراجع من 33% ثلث الناتج في عام 1982، إلى أقل من ربعه في عام 2014-2015 بنسبة 23%، وهو ما أوصل البطالة العامة إلى 12% من القوى العاملة أي حوالي 3,3 مليون عاطل عن العمل، جلّهم من الشباب، حيث 40% من شباب مصر متعطلين!.
النسبة العظمى من اقتصاد مصر موزعة بين قطاعات التجارة والخدمات والمال والعقارات والسياحة، وهي قطاعات تهيمن عليها قوى التبعية الاقتصادية في مصر، ووكلاء الخارج.. والأهم من هذا وذاك، أن الناتج المصري بأغلبه أصبح مرهوناً للدين، سواء لرؤوس الأموال الكبرى الداخلية، أو للخارج..
إن الإجراءات المفروضة على مصر عبر صندوق النقد الدولي، ستفقد الاقتصاد المصري عناصر التماسك المتبقية كلها، وتحديداً حصة الدولة في الإنتاج والإنفاق الاجتماعي، وقدرتها على تحصيل الموارد، وحماية العملة، بمقابل رهن مصر للنمو والتشغيل القادم من الخارج، وعبر الاستثمارات و(الإحسان الدولي)، في ظرف دولي اقتصادي وسياسي مضطرب، وهذه العملية هي رمي مصر في هاوية أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة..
هذه السياسات ذاتها ولدت ثورتين خلال ثلاثة أعوام، وهي ستدفع المصريين إلى موجة جديدة من السخط الاجتماعي، في محاولاتهم المتكررة لفرض التوازن بين ملايين من الشعب، وقلة متحكمة باقتصاد النهب المرتهن للخارج.