اللهم لا شماتة!!... الاعتذار والتنحي لا يكفيان!
هؤلاء الذين راهنوا على برنامج (توافق واشنطن) وسعوا إلى استلهام نصائح ومشورة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأوقعوا بلدانهم في فم الوحش الليبرالي والاقتصادي الجديد، لقمة سائغة، لحساب الاقتصاد العالمي الذي نادوا وروجوا للالتحاق به، مهللين لقطار العولمة الذي سيوصلنا إلى النمو والازدهار..
هذه الفئة من (فئران) الخصخصة، و(دعاة العولمة)، الذين بشرونا بالدولارات التي ستنهال علينا إذا ما (حررنا) اقتصادنا من تدخل الدولة، لتحيل سورية إلى جنة استثمارية و(سوق مالي إقليمي) كما وعدهم خبراء المؤسسات الدولية و(المستشارون) المستوردون من خارج البلاد.. الفريق الاقتصادي الذي قاد اقتصاد البلاد في السنوات القليلة الأخيرة وحتى الآن، واتخذ من سياسات الانفتاح والتحرير الاقتصادي والمالي ونادى بقيادة القطاع الخاص للاقتصاد الوطني، وأعلن عن (انقلاب) اقتصادي على مكاسب الشعب التي تحققت خلال نصف قرن، هذا الفريق الذي حرر التجارة الخارجية وحرر الأسعار، وخفض الضرائب على الأغنياء، وأوقع خزينة الدولة في العجز، وأصاب الأمن الغذائي، وهدد استقلالنا الاقتصادي، وأضعف اقتصادنا الوطني.
هؤلاء الذي حاصروا القطاع العام وأضعفوه، وبدؤوا بقضمه ابتداء من (بدعة) الاستثمار وأسلوب (BOT) والإعلان عن موت القطاع العام والبدء بتصفيته والتخلي عن بعض رموزه في المرافئ وفي الشركات العامة الصناعية.
هؤلاء.. ألم يحن الوقت لأن يقدموا اعتذاراً للشعب وللقيادة السياسية، ويتنحوا خارجاً؟.. ألم يحن الوقت لمحاسبتهم لما أوصلوا إليه الاقتصاد الوطني، ولما سببوه من آلام لفئات واسعة من الشعب، جراء الانسحاب الذي مارسوه للدولة من الشأن الاقتصادي؟ ألم يحن وقت محاسبتهم لما اقترفت أيديهم من آثام تجاه عملية التنمية، وما سببوه من ضغط على معيشة الناس؟
لكن هل يكفي الاعتذار والتنحي؟
في غفلة من الزمن
لقد ارتقوا سلالم المسؤولية، أو هبطوا بالمظلات، في غفلة من الزمن، وفي ظروف افتعلوها، يملؤهم الحقد، وتدفعهم الروح الثأرية، وساعدهم في ذلك المناخ الدولي والإقليمي، وذلك الزخم الذي جاءت به جيوش (بوش) واليمين المتطرف إلى منطقتنا العربية، مستغلين بعض الصعوبات الاقتصادية، التي كان بالإمكان التغلب عليها، ببعض الإجراءات والسياسات التي ترجح الغلبة للاقتصاد الوطني ومصالحه، على مصالح الخارج، انطلاقاً من النهج الوطني الاستقلالي، وبالتمسك بدور الدولة التنموي. لكنهم آثروا طريق الشيطان، يملؤهم الحقد الأسود على مسيرة نصف قرن من المكاسب الوطنية والقومية.
لقد صمدت سورية في مواجهة التحديات خلال نصف قرن وأكثر، رغم الصعوبات والعقبات، ورغم المؤامرات والمشاريع التي صاغها جهابذة اليمين المتطرف في أروقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأميركية ومؤسسات الاتحاد الأوربي، رغم ذلك كله صمد الاقتصاد الوطني السوري، حتى جاءت هذه الفئة من أصحاب الياقات المنشأة والابتسامات الصفراء، فغطوا ساحات وقاعات فنادق الخمس نجوم بالمؤتمرات والندوات الداعية إلى الانخراط بالاقتصاد العالمي والالتحاق بالعولمة قبل فوات الأوان، وليستخدموا كل ما لديهم من أجهزة إعلام ومحافل للدعوة إلى اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية الجديدة، مطلقين الأوهام والأحلام ببزوغ فجر جديد يخلص البلاد من شرور تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع، داعين إلى الانفتاح (السداح ـ المداح) وإلى التحرير الكامل للتجارة الخارجية كمدخل للنمو والازدهار.
لقد حملوا أوهاماً زرعوها في كل مكان، حول الاستثمار الخاص الذي سينقذ الاقتصاد الوطني ويرفعه إلى مكان الدول الصناعية المتقدمة، ورسموا للقطاع الخاص دوراً في (خطتهم) الخمسية بحيث يطغى على القطاع العام بعد تصفيته، لكن القطاع الخاص المحلي والمغترب خذلهم، ولم يستجب لوعودهم، فاتجهوا إلى الاستثمار الأجنبي، وهم يعرفون أنه يعمل وفق قواعد ثابتة رسمتها المؤسسات المالية الدولية المرتبطة بالمخطط الأميركي الصهيوني. الذي ربط بين الاستثمار والاستسلام لمشاريع العدو.
ثم اتجهوا إلى أموال النفط في الخليج، وتوقعوا المعجزات، فإذا بها تتمخض عن بضع استثمارات اتجهت إلى العقارات والمصارف وشركات التأمين الخاصة، فألهبت نار التضخم، وأشعلت المضاربات في الأراضي وبيوت السكن.
(أوهمونا) بأن تحرير التجارة الخارجية (وهو أحد البنود الهامة في برنامج توافق واشنطن) هو قاطرة النمو، فلم ينل الاقتصاد الوطني والصناعة الوطنية من هذا القرار، سوى إغلاق مئات الورش والإفلاسات، وسوى المزيد من العاطلين عن العمل، لأنه، وكما قلنا مراراً: «التحرير قبل التمكين خطر جسيم»، فلم يلتفتوا إلى ذلك، واستهجنوا الرأي، وبقيت آذانهم وقلوبهم مصوبة نحو (وشوشات) صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومستشاريهما، وهاهو الخطر قد وقع، ممثلاً في العجز في الحساب الجاري المتفاقم، والذي سينعكس بالطبع على باقي التوازنات الاقتصادية.
(أوهمونا) بأن تحرير الأسعار في الأسواق المحلية، سوف يقود إلى المنافسة الشريفة، والارتقاء بالمنتجات المحلية، وتخفيض أسعار المستهلك، فإذا بالفوضى تعم الأسواق، وإذا بالأسعار تلتهب، وإذا بحفنة من المحتكرين يتحكمون بالعباد وبقوت العباد.
(أوهمونا) بأن تخفيض الضرائب على الأغنياء سوف يساعد في النشاط الاقتصادي ويزيد من الحصيلة الضريبية، ويخفض العجز في الموازنة العامة، فإذا بالأمور تجري عكس ذلك، وإذا بالعجز في الموازنة يزداد فيتخذونه ذريعة للقضاء على الدعم المقدم لأسعار السلع الحياتية والإستراتيجية، مما يهدد ليس فقط المستهلك في قوته اليومي، وإنما أيضاً المصنع في رفع كلفة إنتاجه مما يضطره للخروج من السوق، لكن الأخطر من ذلك أن (رفع أسعار المازوت) في الشهر قبل الأخير من حصاد موسم الحبوب، قد أضر بهذا الموسم حيث امتنع المزارعون عن ضخ المياه للسقية قبل الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار المازوت، الأمر الذي أدى لضرب الموسم ضربة موجعة أدت إلى تهديد الأمن الغذائي في ظرف من أصعب الظروف التي تمر بها سورية، حيث تحولنا إلى بلد مستورد للقمح بدلاً عن التصدير.
وبعد...
هل نمضي في بيان (الأوهام) التي بنى عليها الفريق الاقتصادي سياساته الاقتصادية والتجارية والمالية، أم نكتفي بذلك؟...
هل نمضي في بيان المآزق التي أوقعها (فئران الخصخصة) و(نخب العولمة) بالاقتصاد الوطني؟
هل نتحدث عن العلاقة بين سياسات التوجه نحو اقتصاد السوق والمشروع الأميركي الصهيوني، حيث تقع هذه السياسة في صلب إستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنها بوش بعد سنة من أحداث 11 أيلول 2001 تحت عنوان «الحرب الطويلة على (الإرهاب)» وتطويع البلدان المارقة/ ممهداً بذلك لمشروع الشرق الأوسط الكبير الهادف إلى إقامة (النموذج الديمقراطي الأميركي) في العراق بعد احتلاله، ومن ثم تعميمه على دول المنطقة الممتدة من المغرب إلى حدود الصين؟
لقد آن الأوان لوقفة مراجعة للسياسات الاقتصادية. العالم الغربي الرأسمالي الإمبريالي، الذي يسعى لاستيعاب الأزمة، ولإعادة صياغة نظام اقتصادي ومالي عالمي جديد، من خلال مراجعة السياسات المالية والاقتصادية في محاولة لإنقاذ الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وتحميل الشعوب الفقيرة والدول النامية مسؤولية الأزمة، والمحافظة على مصالح الشركات الكبرى وأصحاب رأس المال.
نحن مدعوون في البلدان العربية، كجزء من البلدان النامية، إلى إجراء مثل هذه المراجعة، ليس فقط من أجل تصحيح السياسات واستعادة الدور التنموي للدولة، وإنما أيضاً من أجل الإسهام في بناء النظام الاقتصادي والعالمي الجديد، ومنع الدولة الغنية من الاستفراد في صياغة هذا النظام، وتحويل تداعيات الأزمة لصالحها.
ولكن على من تقع مسؤولية القيام بهذه المراجعة، التي ستتضمن بلا شك التوصية بالعودة إلى مسار الدولة التنموية بعد الاستفادة من أخطاء وهفوات الماضي، ولكن مع التأكيد على دور قوي للاقتصاد الوطني؟
من يقوم بهذه المراجعة؟
بالتأكيد إن من أوصل الاقتصاد الوطني إلى ما وصل إليه، ومن قاد الاقتصاد الوطني إلى مزالق الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ومن خضع لتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من قام بذلك كله، لا يحق له أن يشترك في المراجعة وإعادة تقويم السياسات، فهو لن يستطيع قيادة عملية التقويم والتصحيح لاعتبارات شتى، أولها أنه لا يزال يكابر ويدعي ويكذب.
ومن شهد حديث كبير الفريق الاقتصادي في الفضائية السورية مؤخراً، سوف يقف على مستوى ما وصل إليه هذا الفريق، وهو يذكرنا بالحكاية المعروفة لدى الشعب، والتي طالما تم الاستشهاد بها، وهي تحكي قصة أبناء القرية الذين ضاقوا ذرعاً بممارسات خوري الكنيسة، فلم يجدوا حلاً سوى التوجه إلى مفتي المدينة ويعلنوا إسلامهم، وعندما عادوا إلى قريتهم وجدوا (الخوري السابق) لابساً العمامة ومرتدياً لباس شيوخ الإسلام في استقبالهم!!!...
وهذا هو حالنا مع الفريق الاقتصادي الذي قوض دور الدولة في الاقتصاد بسبب سياساته المنحازة لاقتصاد السوق، فإذا به بعد الأزمة (يفخر) بدور الدولة ويهاجم سلطة رأس المال، ويعلن أن «ابتعاد الدولة عن دورها الإشرافي والتنظيمي للعملية المالية والاقتصادية هو خطأ كبير جداً يصل إلى مرحلة الكفر بالاقتصاد ومبادئه وعلمه» (أوردت ذلك جريدة الخبر 11/10/2008).. هل بعد ذلك يمكن أن نقول شيئاً؟
إن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة صعبة، وقد انتهى نظامه القائم على هيمنة الشركات متعددة الجنسية والمضاربين في البورصات والعاملين في إدارات المصارف وشركات التأمين، الذين يلتقون جميعاً على طريق الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وتحرير حركة الأموال والعولمة المدعمة بقوة الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية ونفوذها السياسي، هذه الحقبة من التاريخ انتهت، ولا يعني هذا انتهاء الرأسمالية (ولهذا حديث آخر)، إنما يعني انتهاء مرحلة والبدء بمرحلة جديدة، يعكف العالم الآن على صياغة خطوطها الرئيسية.
وكما جلس (الحلفاء) في (بريتون وودز) في نهايات الحرب العالمية الثانية لصياغة النظام المالي النقدي العالمي الذي أستكمل في نصف تسعينات القرن الماضي بتأسيس منظمة التجارة العالمية، فتشكل بذلك النظام الاقتصادي العالمي الجديد (المعولم) القائم على هيمنة وتسلط المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة، كما حدت ذلك في الماضي، فإنه سيحدث الآن، سوف تعتمد الدول الصناعية المتقدمة والدول السبع بالتحديد، إلى حماية نفسها، وسوف تسعى لوضع الصيغ المناسبة لاستمرار تسلط رأس المال على مسيرة الاقتصاد العالمي. وبقي على الشعوب المغلوبة، والدول النامية أن تبحث عن دور لها في هذه المرحلة، ليس من أجل وضع صيغ النظام لصالحها بالكامل، وإنما من أجل التخفيف من الأضرار والتواجد على الساحة العالمية، وعدم ترك هذه المسألة لمصالح القوى التي أوقعت العالم في شروط الإمبريالية وتوحش الرأسمالية.