الثلاثاء الاقتصادي يتدارس آثار السياسات الاقتصادية
أفردت جمعية العلوم الاقتصادية السورية ندوتها الأخيرة في 11/2/2009 لبحث «الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية في سورية»، وقدم د. سمير سعيفان تحت هذا العنوان ورقة بحث عرض فيها لهذه الآثار على مدى العقود الخمسة الماضية، مبيناً أن هذه العقود حملت في طياتها تغيرات جوهرية في السياسة الاقتصادية لسورية..
فبعد عرض سريع لمختلف محطات الاقتصاد السوري منذ ما بعد الاستقلال، توقف د. سعيفان عند بداية الإعلان السوري عن التوجه نحو اقتصاد السوق، وتتوج هذا التوجه بالإعلان عن تبني «اقتصاد السوق الاجتماعي» في 2005، لكن «دون تقديم أي توضيح أو تحديد للمقصود بهذا المفهوم».. وأوضح أن الخطة الخمسية العاشرة التي عُمل بها في العام نفسه «تبنت مفهوماً صريحاً وواضحاً لاقتصاد السوق بنسخته الليبرالية».
وأشار د. سعيفان إلى أن خطوات الإصلاح الاقتصادي المتخذة في أرض الواقع خلال الفترة ذاتها، شملت فتح جميع القطاعات أمام الاستثمار الخاص، ومنح الاستثمار غير السوري معاملة الاستثمارات السورية نفسها، في حين كان تجميد القطاع العام قد بدأ منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وأن دور الدولة التدخلي شهد تراجعاً ملحوظاً منذ بداية الألفية الثالثة، حيث تخلت الدولة عن احتكارها لاستيراد العديد من السلع وتراجع دورها في التجارة الداخلية، وأن زيادات الأجور خلال السنوات الماضية لم تعادل ارتفاعات الأسعار ما أدى لتدهور المستوى المعيشي لفئات أوسع من السكان، وبيّن أن عدم إصلاح الأجور والرواتب والتعويضات وبقاءها على حالها في البلاد كان ظالماً لأصحاب الاختصاصات والكفاءات، ومثّل دافع هجرة لهؤلاء، وفي الوقت نفسه لم يتوسع الإنفاق على التعليم والصحة بما يتناسب مع زيادات السكان في حين تم فتح التعليم بجميع مراحله أمام القطاع الخاص.
المعدل شهد تأرجحاً
وبالنسبة لمعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقود الأربعة الماضية أوضح د. سعيفان أن هذا المعدل شهد تأرجحاً، فقد ارتفع بين 1971 و1975 إلى 11.1%، ثم تراجع في المرحلة التالية إلى 7.5%، وبيّن أن فترة السبعينيات كانت مرحلة النمو السريع الأولى حيث فاق معدل النمو فيها 10.5% سنوياً، وكانت الدولة مسيطرة وحجم دورها كبيراً في التنمية من حيث توسيع الطلب وحشد طاقات الإنتاج، وأوضح أن معدلات النمو عادت إلى التراجع وصولاً إلى 1.8% بداية الثمانينيات، ليتابع انخفاضه سالباً طوال العقد، ثم يعاود ارتفاعه ثانيةً في النصف الأول من التسعينيات، قبل أن يهبط من جديد في النصف الثاني وصولاً إلى الفترة الممتدة بين 2001 و2005 حيث كان النمو بين صفر و5%.
أما فيما يتعلق بالانعكاسات الاجتماعية للسياسات الاقتصادية خلال العقود الأربعة الماضية، فأوضح سعيفان أن أبرز التأثيرات تجلت في دمج الريف والفئات الفقيرة بالمدينة وتوسع الهجرة الداخلية نتيجة لسوء التخطيط الإقليمي المزمن، وهذا ساهم بتوسع السكن العشوائي في المدن، وهي الظاهرة التي تعدّ من أهم الظواهر التي تسم تطور سورية في العقود الخمسة الأخيرة.
وبعد الإسهاب في سرد تاريخ السياسات الاقتصادية في سورية بالمرور سريعاً على آثارها الاجتماعية، استعرض الباحث ما رآه أهم استنتاجات التطور الاقتصادي في البلاد، مبيناً أن التحول الاقتصادي من نموذج الاقتصاد الشمولي كان ضرورةً لأن الاستمرار به كان سيعطي نتائج سلبية أكثر مما يعطي نتائج إيجابية، وأن التوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي يجب أن يصاغ في وثيقة واسعة تحدد خطوطه العامة وتحدد سياساته القطاعية ليكون موجهاً لعمل مؤسسات الحكومة، وأضاف أن التحولات الاقتصادية التي جرت في المجتمع السوري على مدى العقود الأربعة الماضية كان لها أثر كبير وواضح على المجتمع من مختلف الجوانب وخلقت حراكاً اجتماعياً واسعاً، في حين تنمو قوى رأس المال وتحكم سيطرتها على الاقتصاد والمجتمع من جميع جوانبه.
كما أوضح د. سعيفان أن التحول الاقتصادي في سورية بدا متأثراً بقوة بالسياسات الليبرالية الأنكلوساكسونية، وهي التي يروج لها صندوق النقد والبنك الدوليان وغيرهما من المنظمات والشركات الاستشارية الدولية، معرباً عن قناعته بأن هذه الخيار ليس الوحيد أمام سورية أو غيرها في التحول عن النموذج الاقتصادي القديم، فهي وصفة أثبتت مخاطرها التجربة محلياً وعالمياً، وعليه فإن خطوات التحول الاقتصادي في سورية متأثرة بقوة بهذه الوصفة، ولذلك تبرز نتائج سلبية اقتصادية واجتماعية ومنها؛ خلل اقتصادي يتمثل في اختلال التوازن بين القطاعات الاقتصادية، وخلل اجتماعي يتمثل بالنظر إلى الجانب الاجتماعي من اقتصاد السوق على أنه منتج ثانوي للسياسة الاقتصادية التي يقودها الربح وتزايد الفقر، وفي النهاية خلص د. سعيفان إلى أن سورية تحتاج تشكيلة اقتصادية اجتماعية تجمع بين الإنتاجية العالية من جهة والتوزيع العادل للدخل من جهة أخرى.
د. حيان سلمان: على الدولة ألا تبتلع المجتمع.. وألا تبتعد عنه نهائياً
أبدى د. سلمان في مداخلته تأييده للاختلاف في النظر للاقتصاد، مؤكداً على فكرة أن «النتيجة دائماً تتبع السبب»، وأخذ د. سلمان على المحاضر استخدامه للصيغة التبريرية عند طرحه للأفكار مسبباً التداخل بين السبب والنتيجة، وأعرب د. سلمان عن قناعته بوجود تحولات اجتماعية داعياً إلى التركيز على سبب هذه التحولات لكونه «يكمن في البعد الاقتصادي»، وتابع: «أنا لم أكن يوماً من المؤيدين لأن تبتلع الدولة المجتمع، ولا لأن تبتعد عنه نهائياً»، وقدم د. سلمان أمثلةً رقميةً عن التحول الاقتصادي- الاجتماعي في سورية، موضحاً أن «متوسط دخل العامل في القطاع العام بلغ 17698 ل.س في الصناعات التحويلية- المساهم الأساسي لعمل القطاع الخاص- عدا قطاع النفط، أما متوسط دخل العامل في القطاع الخاص فبلغ 5027 ل.س»، وأثار هذا الرقم حفيظة عضو جمعية العلوم الاقتصادية الأستاذ غسان القلاع فأشار د. سلمان إلى أن مصدره هو (المجموعة الإحصائية لأيار 2009)، وتابع د. سلمان أن «قيمة الرواتب والأجور في الصناعة التحويلية في القطاع العام من القيمة المضافة بلغت 206% في حين يقول المنطق الاقتصادي إن هذا أمر مستحيل الحدوث لأن الرواتب والأجور هي جزء من القيمة المضافة، ولكن عند العودة إلى السبب في هذا الرقم تبين أنه زيادات الرواتب المتتالية، أما في القطاع الخاص فلا تتعدى نسبة الرواتب والأجور من القيمة المضافة 16% وهي من أدنى النسب في العالم، وهذا يعني استغلالاً مطلقاً للعامل، وتعميقاً للفجوة الاجتماعية ورمي العمال خارجاً وانتهاكاً حتى لكرامة العاملين، والمرجع هو (المجموعة الإحصائية لعام 2009)».
د. رزق الله هيلانة: غياب المنهج
انتقد د. هيلانة غياب المنهج عن المحاضرة، محاولاً طرح منهج يمكن اعتماده للتصدي لقضية البحث فـ«أولاً هناك سياسات اقتصادية، وهناك سياسات اجتماعية، وهناك آثار اجتماعية للسياسات الاقتصادية، وهنا يمكن أن نسأل: هل السياسات الاقتصادية تخدم السياسات الاجتماعية أم العكس؟ وهكذا يمكن التوصل إلى نتائج أوضح نقيم على أساسها الآثار الاجتماعية لهذه السياسات».