محمد الجندي محمد الجندي

الهبوط الكبير /1929/.. والأزمة المالية /2008/

الهبوط الكبير Great Depression بدأ في الولايات المتحدة وامتد من 1929 حتى 1939 في العالم الغربي، ونتج عنه انحدارات كبيرة في الإنتاج، وبطالة شديدة.

بين ذروة الهبوط وحضيضه، هبط الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة /47%/، والناتج الوطني الخام /30%/، ومؤشر أسعار الجملة /33%/ وبلغت البطالة /20%/.

سال حبر كثير في دراسة ذلك الهبوط وظاهراته وأسبابه، التي طرحت فيها أمور كثيرة، منها الانحدارات في الطلب الاستهلاكي، والذعر المالي، والارتكابات malfeasance المصرفية والمالية، وأخطاء السياسات الحكومية، وتراجع التجارة الخارجية، وأيضاً المعادل الذهبي للنقد، الذي كان يربط البلدان الغربية، والذي جعل الأزمة تمتد إليها.

ويركز الاقتصاديون، حسب انتماءاتهم النظرية، على بعض الأسباب دون غيرها، ولسنا هنا في صدد التفصيل في ذلك.

الكساد هو عنصر لا ينفصل عن بنية الرأسمالية الدولية، ونقول الرأسمالية الدولية لأن الرأسماليات الوطنية متصلة عضوياً، فيما بينها، لتؤلف الرأسمالية الدولية. ذلك لأن الإنتاج الكبير الرأسمالي، لا يقابله تصريف كبير له، وعولج ذلك بالتوسع الاستعماري، فالاستعمار كان آلية لثلاث عمليات، مترافقة قليلاً أو كثيراً، أولها نهب الثروات، وخصوصاً الطبيعية، وبهذا يتفق جزئياً مع الغزو القديم، وثانيها تصريف الإنتاج والامتصاص عبره بالمدخرات التاريخية للمستعمرات، وأنتج الفقر فيها، والتراكم في العواصم الرأسمالية، وبقي الإنتاج الرأسمالي عاجزاً عن التصريف الكافي، وهذا أدى إلى تطور التكنيك التجاري والمصرفي، الذي به استطاعت الرأسمالية الدولية تكديس حجوم كبيرة من السلع في المؤسسات التجارية المنتشرة في أنحاء العالم في نوع من التصريف الافتراضي، الذي تحمل عبئه المصارف (البنوك)، وهذه بدورها سمحت بتأمين السيولة النقدية الضرورية لإعادة الإنتاج الرأسمالي. غير أن المصارف (البنوك) اتسع دورها مع الزمن، فصارت هي التي تتحكم بالإنتاج، وتضع المؤسسات الإنتاجية تحت رحمتها، فتدمر ما تدمر منها، وتدمج بعضها ببعضها الآخر، وتغير الخيارات الإنتاجية، ومراكز الثقل الإنتاجي، فبينما كان التركيز في الماضي، مثلاً، على صناعة الأقمشة، جرى الانتقال إلى الصناعات الثقيلة والعسكرية منها، وإلى الصناعات الإلكترونية. وعدا سيطرة البنوك على الإنتاج، فقد اكتشفت هذه أنها تستطيع إنتاج النقد، أي إنتاج رأس المال بمعزل عن، أو بعلاقة هشة مع الإنتاج المادي، وبأنها تستطيع أن تستخدم ذلك الرأسمال في البورصة، التي أنشئت أصلاً لاستقطاب الادخارات من أجل تأمين السيولة للإنتاج الرأسمالي المادي، فأصبحت سوقاً للمضاربة على مختلف الرساميل، ومنها الرساميل المصرفية (أي الرساميل التي تنتجها البنوك). وهذا الانتقال في الذروة من الرأسمال المتمثل بالإنتاج المادي إلى الرأسمال المالي، تجاوز الكساد كأزمة، وحوله من أزمة للرأسمالية إلى أزمة للمجتمع، حوله إلى فقر يطول الأغلبية الساحقة في المجتمع وإلى بطالة، وأيضاً إلى إفلاسات تطول المؤسسات الاقتصادية الصغيرة، أو غير المرغوبة. وإلى مساس بأموال وإدخارات المواطنين، حيث يؤدي مثلاً إفلاس البنوك إلى ضياع الودائع، ويؤدي التضخم النقدي إلى ذوبان القيمة الحقيقية للموجودات النقدية لدى جميع الناس، فالقيمة الحقيقية المتبلورة في دولار اليوم هي أضعف بكثير من دولار القرن الماضي، وأضعف في دولار ثمانينيات القرن الماضي منها في دولار ستينيات، وأضعف في ستينياته منها في عشرينياته. 

الأزمة وكارثة الفقر

أزمة 1929 في الولايات المتحدة كانت أزمة فقراء، وأزمة شرائح رأسمالية، فهبوط الإنتاج الصناعي والناتج الوطني الخام ومؤشر أسعار الجملة هو أزمة للشرائح الرأسمالية الصناعية والمالية، وارتفاع نسبة البطالة ملحق بأزمة الفقراء.

وانتشار أزمة 1929 إلى العالم الغربي كان فرصة تاريخية هامة لأحزاب الأممية الثانية لتسلم القيادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من الرأسمالية الدولية، وبدلاً من ذلك تركتها تلعب لعبتها الحربية، وتدمر البلدان الأوربية، ربما كانت تلك الأحزاب عاجزة ولكن مهما يكن وضعها كان باستطاعتها فعل شيء يخفف الآلام، التي عانتها شعوبها وبلدانها.

ولئن كانت الحروب كارثة بالنسبة للفقراء فوق كارثة الفقر، فقد كانت الحرب العالمية الأولى استثماراً بالنسبة للرأسمالية الأمريكية، وبالنسبة للرأسمالية الدولية بالتالي.

معالجة الرئيس الأمريكي السابق روزفلت لأزمة 1929، الملقبة بـ«الصفحة الجديدة New Deal» كانت تخفيفاً لمشاكل الشرائح الرأسمالية، أما المعالجة الحقيقية فقد كانت في الحرب العالمية الثانية، التي أدت إلى مؤتمر بريتون وودز، الذي جعل الدولار الأمريكية نقداً دولياً، وإلى الاستثمارات الضخمة عبر مشروع مارشال بإعادة أعمار أوربا الغربية، والتي لم تكن ممكنة، لولا قبول الدولار نقداً دولياً.

قفز الاقتصاد الأمريكي بنتيجة الحرب العالمية الثانية صاروخياً على الصعيدين، المدني والعسكري، وأصبحت الرأسمالية الأمريكية سيدة العالم.

أيضاً حرب فيتنام الأمريكية كانت استثماراً بأكثر من ثلاثين مليار دولار للرأسمالية الأمريكية على حساب الشعبين الفيتنامي والأمريكي.

ولكن بعد 1980 وانتهاج الليبرالية الجديدة في السياسة والاقتصاد في الولايات المتحدة، ثم عبر العولمة الرأسمالية المتدرجة في أغلب بلدان العالم كثيراً أو قليلاً، تغيرت الأمور.

بشكل عام، في الاقتصاد الرأسمالي، وبسبب التكنيك التجاري والمصرفي يحدث في كل دورة اقتصادية أمران مترافقان، يتضخم النقد، أي تنخفض قيمته الحقيقية، ويزداد تراكم الثروة لدى الرأسمالية. ولذا كان الغنى يقاس بالملايين بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وصار يقاس بالمليارات بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح الآن يقاس بالتريليونات. وهذه الأرقام الفلكية تنطوي على تدهور فظيع بالقيم الحقيقية للعملات، ومن الجملة الدولار (المقصود بالقيمة الحقيقية هو المعادل العيني الوسطي للوحدة النقدية)، وعلى اتساع الفقر على نطاق أوسع، فأوسع.

الليبرالية الجديدة تهمل ببساطة مصالح الناس. طبعاً الرأسمالية منذ نشوئها تهمل مصالح الطبقة العاملة والمسحوقين الآخرين في المجتمع، ونضال الطبقة العاملة التاريخية أدى تدريجياً إلى صدور قوانين تحمي العمال، وتحدد ساعات عملهم، وتؤمنهم، فتوفر لهم خدمات صحية وتقاعدية، إلخ. وفي أيام الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز) نشأت في أوربا، بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى ثمانينات القرن الماضي، دولة الرعاية welfare state، التي تقدم الكثير من الخدمات الاجتماعية. 

الفقاعة  المالية

الليبرالية الجديدة تريد كل إمكانات المجتمع الاقتصادية والمالية والسياسية لمصلحة الرأسمالية، فهدرت أغلب حقوق العمال، وألغت أو قلصت أغلب الإنفاق الاجتماعي، فانتهت «الرعاية» أو قلصت إلى حد كبير.

وإضافة إلى ذلك تهمل الليبرالية الجديدة مصالح الشرائح الاجتماعية الأعلى، فودائع البنوك، لا تبقى ودائع إلا بشكل اسمي، وفي الأحوال المستقرة غير مودعو الأموال نسباً متزايدة من القيم الحقيقية لودائعهم، ويخسر المضاربون الصغار على الأسهم وعلى العملات في البورصة عموماً أموالهم، وقد يخسر المودعون ودائعهم من خلال خسائر البنوك في البورصة، وبخسارة شركات التأمين في البورصة، قد يخسر أصحاب الحقوق الخدمية (التقاعد، الخدمات الصحية، إلخ) حقوقهم.

ففي ظل الليبرالية الجديدة، الفقاعة المالية، أي التضخم النقدي الكبير، تجر كوارث اجتماعية متعددة الجوانب، يقع ثقلها لا على الشرائح الاجتماعية المسحوقة، فحسب، وإنما أيضاً على الشرائح العليا، فتفلس بنوك، وشركات، أشخاص أحوالهم ميسورة، إلخ. وإذا كان بإمكان الرأسمالية إهمال الشرائح الاجتماعية المسحوقة، فليس باستطاعتها إهمال الشرائح العليا، والعلاج هو حقن الأموال، ولكن هذا الحق ينتج عنه مع الليبرالية الجديدة غالباً نشاط مصرفي وعسكري (أي صناعي ـ عسكري)، وهذا لا يحل الأزمة.

ومع الفقاعة المالية الأسطورية لم تعد الحرب استثماراً، كما كانت تزيد بشكل غير معقول من حجم الفقاعة المالية، وتزيد في الوقت نفسه من تناقض الشركاء في الرأسمالية الدولية. لذا حرب العراق وأفغانستان. خلافاً لحرب الفيتنام، لم تكن استثماراً، وإنما هزت الرأسمالية الدولية بأزمتها الحالية.

الأزمة دائمة ولامخرج منها

المعالجة كانت، وما تزال، منذ نشوء الأزمة الحالية هي في حقن المصارف الكبرى، وبعض الشركات الكبرى ذات الوزن الاستراتيجي بالمال، ولكن هذا يبقي الأزمة على حالها، بل لا يحول دون تفاقمها، وليس مجدياً اللجوء إلى نوع من الحرب العالمية الثانية، فالتاريخ لا يعيد نفسه، والحروب تزيد الأزمة، ولا تعالجها. أيضاً غير ممكن الرجوع إلى الكينزية، كما ينادي بعض الاقتصاديين، لأن التكنيك المصرفي الذي تطور إلى درجة مذهلة، لا يمكن إعادته إلى الوراء.

إهمال الشرائح الاجتماعية المسحوقة طورت الرأسمالية الدولية تاريخياً معالجته بآليتين مترافقتين، الأولى تفعيل العدوانية، القمع، العصابات، التجنيد في التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية، والثانية تفعيل الرواسب التاريخية، العائلية والقبلية، العرقية، الطائفية، إلخ. وبهاتين الآليتين يقتتل الناس فيما بينهم إلى أمد غير محدود ناسين أو متناسين الفقر، وضعف التطور، والاستغلال بمختلف أشكاله، بل والاحتلال، والتبعية للمستعمر القديم أو الحديث.

وهذا يوفر للرأسمالية عمراً تاريخياً، ولكنه في الوقت نفسه ينشر عدم الأمن في العالم، كما هو حادث حالياً، والقتل، ويهدر الطاقات البشرية الثمينة، التي إذا كان جزء منها يصنع المعجزات، كما هو حاصل، فإنها، إذا ما زودت بالإمكانات العلمية والتكنولوجية تنقل الإنسان إلى عالم، كل ما فيه هو لخيره.

الرأسمالية الدولية لن تحمل مسؤولية الشرائح المسحوقة، التي تؤلف أغلبية سكان الكرة الأرضية. موضوعياً ذلك غير ممكن. ولكن بغيابه سيبقى الإنسان مجرد حطب للحروب ولمضاعفاتها، ومنجم بشري للاستغلال فثروته وجسده وسكنه وموطنه، لا شيء ملكه، وإنما ملك لتلك الرأسمالية.

غير أنها بقتل الإنسان، تقتل نفسها أيضاً، ولو على المدى الطويل. ليس الكلام هنا مجازياً، القتل يقتل أكثر فأكثر الإمكانات التي تتمتع بها، وينقلها من أزمة إلى أزمة، ويحيطها بالأعداء من كل صوب بآلية الفعل ورد الفعل، وحتى عندما تدمر الكوكب، كي تنتصر، فلن يبقى هنالك منتصر.

الأزمة الحالية لن تنتهي، لأن الحروب لم تعد لديها خيارات مجدية، والإنسان المستغل يعي أكثر، فأكثر عدوه الحقيقي، الرأسمالية الدولية، ويوجه حربته نحوها.

ربما ليس الخلاص الإنساني قريباً، ولكن أزمة 2008 تختلف عن أزمة 1929 بأنها دائمة، ولا مخرج منها.

آخر تعديل على الأربعاء, 27 تموز/يوليو 2016 12:21