سياسات الحكومة تسعى لرفع تكاليف الإنتاج معوقات الزراعة السورية تنعكس سلباً على الأسعار والأسواق الداخلية
تؤدي السياسات الحكومية، عن قصد أو عن غير قصد، إلى تدمير القطاع الزراعي في سورية، دون أدنى اهتمام بتأمين مستلزمات الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي.
فمع أن الزراعة السورية تعاني منذ سنوات موجة من الجفاف، جاءت القرارات الحكومية التي لم يكن آخرها تحرير أسعار السماد إلا الضربة القاضية التي تؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج وتحميل الفلاح عبئاً لا طاقة له به. وهذا سيؤدي مرة أخرى إلى تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية الرئيسية كالقطن والقمح، الذي تعمل سورية على استيراده حالياً بعد أن كانت الدولة العربية الوحيدة المصدرة له، لتعويض العجز الناتج عن قلة الإنتاج، وسد الخلل الحاصل عن بيع جزء من المخزون الاستراتيجي الهام.
وفي طريق موازية أدت السياسات الليبرالية للفريق الاقتصادي إلى تراجع نصيب الأجور في الناتج المحلي الإجمالي في سورية، لمصلحة حصة الريع والأرباح، وإذا أضفنا إلى ذلك الارتفاع الجنوني للأسعار الذي شهدته الأسواق الداخلية في سورية، قبل التراجع الملحوظ بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية التي سببت الكساد الحالي والركود، كل ذلك عمق الأزمة الداخلية الناتجة عن انخفاض القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود، وعمق الفوارق الاجتماعية وأدى إلى عجز الكثير من الأسر السورية عن تأمين مستلزمات السلة المعيشية اليومية، وخاصة بعد رفع الدعم عن المحروقات الذي أثر كثيراً على القطاعين الصناعي والزراعي، وتأثرت الصادرات السورية بسبب ارتفاع التكلفة، وأدى ذلك إلى الارتفاع الحارق للأسعار الذي طال جميع النواحي المعيشية اليومية للمواطن السوري.
سياسة ذر الرماد في العيون
أخذ الفريق الاقتصادي يصور لنا منذ سنوات أن اندماج الاقتصاد السوري بالاقتصاد العالمي سيكون هو سفينة النجاة، وأن تحرير التجارة والأسعار سيخلق جو المنافسة، وأن تنفيذ تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هو السبيل الوحيد لتحسين الاقتصاد الوطني، ولكن بعد الانهيارات الاقتصادية التي لم يرتبط بها الاقتصاد السوري، وبعد ثبوت فشل نهج تحرير التجارة وتخلي الدولة عن دورها الرعائي، فوجئنا بقولهم: «الاقتصاد السوري محمي ومتين لأننا لم نندمج، وإلا لكانت الأزمة الاقتصادية قد امتدت إلى بلدنا».
ولكنهم بسرعة نسوا هذا الدرس، وعادوا إلى تنفيذ تعليمات البنك الدولي، وحرروا أسعار السماد، وتخلوا مرة أخرى عن جانب هام من دور الدولة الرعائي، وأطلقوا أيدي التجار ليتحكموا ويحتكروا كما تسول لهم أطماعهم ونزعاتهم نحو الربح الفاحش، وكان لهذا القرار الانعكاس السلبي المباشر الذي عانى منه الفلاحون مع بداية زراعة هذا الموسم.
ومع أن هذا الإجراء قد طال الفلاحين فقط حتى الآن، ولم تنعكس بعد مفاعيله على أرض الواقع المعيشي والسوق الداخلية، ولم تظهر آثاره بعد على الحياة اليومية، إلا أن هناك توجساً كبيراً بين المواطنين، وخوفاً من أزمة قادمة نجهل معالمها، تضاف إلى أزمة الركود الاقتصادي وجمود حركة البيع والشراء في السواق الداخلية، واقتصار التسوق على الحاجات الضرورية جداً، رغم ما تشهده الأسواق من تراجع في الأسعار، ولجوء الكثير من المحلات لإعلان التنزيلات في أسعار جميع السلع، وخاصة الأقمشة والألبسة والمواد الغذائية والتموينية.
خوف وترقب لأزمة كبيرة قادمة
كانت لـ«قاسيون» جولة في الأسواق المحلية، بين تجار الجملة والمفرّق والمستهلكين، وعلى صعيد المنتجات كافة، من ألبسة وأقمشة وأدوات منزلية وكهربائية، وكذلك العقارات والمطاعم، إضافة إلى المواد الغذائية والتموينية. وتنقل استشفاف المستقبل وتصوراته، على ضوء القرارات الحكومية وانعكاساتها. فمع أن الأسعار تشهد هذه الأيام انخفاضاً ملحوظاً ومستمراً، وتتسابق المحال للإعلان عن نسب عالية في التنزيلات، ومنح حسومات كبيرة للمتسوقين، إلا أن الأسواق الداخلية السورية تشهد حالة ركود واضحة، حيث انخفض الطلب بشكل كبير على المنتجات كافة، والحركة الشرائية لدى المواطنين ضعيفة، وتشهد حالة من الجمود أدت إلى وقف حركة تداول السلع. كل ذلك بسبب السياسات الحكومية التي أدت إلى انخفاض القوة الشرائية لدى المواطنين، وخاصة ذوي الدخل المحدود، وتغير أنماط الاستهلاك، وارتفاع مستوى التضخم في الاقتصاد السوري بشكل كبير. ومن أبرز الأسباب التي ساهمت في خلق هذه الحالة، رفع الدعم عن أسعار المحروقات، الذي أثّر بدوره على أسعار المواد الاستهلاكية كافة، حتى تلك التي لا يدخل المازوت في إنتاجها، بسبب تأثير ارتفاع أسعار المحروقات على أجور النقل.
ـ المواطن حسن ع. قال: «قبل أن تنزل المحاصيل ذات التكاليف العالية، هذا إن كان هناك محاصيل أساساً، حال السوق الآن تقول: «الجمل بليرة وما في ليرة». العروض كثيرة والتنزيلات كبيرة على الأنواع المختلفة، ووصلت حتى 75% في بعض الأحيان، وهناك انخفاض في أسعار المواد الاستهلاكية اليومية كالزيت والسمنة والرز وبعض المواد التموينية، ولكن دخل الأسرة لا يكاد يكفيها الضروريات فقط، ومع أن معظم أرباب الأسر يعملون عملاً إضافياً أو أكثر، إلا أن السوق حوت يبتلع كل الناتج دون بركة، ونحن نضطر للتقنين والتقتير، واستجرار المواد ذات الضرورة القصوى فقط».
ـ صاحب محل سمانة وبقالة قال: «أكيد هناك أناس في الحكومة يريدون تدمير البلد! كيف يحررون أسعار السماد ويزيدون على الفلاح تكاليف الزراعة؟! الآن، ورغم التراجع الملحوظ في أسعار المواد الاستهلاكية كالزيت والسمنة والرز، إلا أن المستهلك بات يبحث عن مفرق المفرق، فقلما يضطر أحدهم لشراء علبة سمنة أو زيت، وإذا اضطر لذلك فإن يبحث عن أرخص الأنواع، متجاوزاً الجودة والطعم والشروط الصحية، كما كثرت أضعافاً مضاعفة ظاهرة «البيع بالدَّين» وتسجيل الحساب إلى آخر الشهر، وحين يأتي آخر الشهر يتم تسديد جزء بسيط من الحساب، ثم يتتابع الاستجرار والتسجيل إلى آخر الشهر، وهكذا...»
ـ صاحب محل ألبسة قال: «في السنوات السابقة، كنا بمجرد إعلان التنزيلات في نهاية الموسم على الألبسة الصيفية أو الشتوية، تزداد بشكل كبير حركة البيع والشراء، وكانت فترة التنزيلات محدودة، إلا أنه في هذه السنة ومنذ بدايتها بدأت المحلات بالتخفيضات الدائمة والمستمرة، وبنسب كبيرة وصلت في بعض الأحيان إلى 75%، ومع ذلك فإن نسبة البيع قليلة جداً، وقد تتحسن حركة البيع والشراء عند بداية الشهر، أي حين تقاضي الأجور والرواتب، ومع ذلك تبقى كمية البيع قليلة نسبياً، عما كانت عليه في السنوات السابقة، هذا حالنا الآن فما بالك إذا أتى الموسم القادم بما يحمله لنا من ارتفاع في التكاليف وقلة في الإنتاج؟ أتوقع أن الناس ستأكل بعضها، الله يجيرنا».
ـ صاحب مشغل للألبسة قال: «أصبحت أكثر من 90% من المواد أسعارها محررة، ومن حق التاجر طبعاً أن يربح ولكن (بنور الله) ودون طمع أو جشع، علماً أن كثيراً من التجار حالياً يضطرون للبيع بسعر التكلفة، وفي بعض الأحيان يبيعون بخسارة، كي يتخلصوا من بضائع قد لا تباع في العام القادم، وإذا بيعت فقد لا ترد ثمنها. وإن أسباب الجمود في السوق يرجع بالدرجة الأولى إلى ضعف القدرة الشرائية عند المواطن، وخاصة ذوي الدخل المحدود وتآكل رواتبهم عند الضروريات فقط، وهذا بسبب السياسات التي يتبعها المخططون الاقتصاديون لهذا البلد، الذين أفقروا المواطنين وجوعوهم، وبات أكثر من خمسة ملايين مواطن يعيشون تحت خط الفقر».
ـ المواطن عثمان س. قال: «نحن في بلد منتج للدواجن ولحوم الضان، ونفتخر أن لحم الخروف السوري ذو نوعية جيدة وسمعة ممتازة على مستوى العالم، ولكن أسعار اللحوم عندنا غالية تكسر الظهر، والتجار لا يهمهم سوى تفريغ ما تبقى في جيوب المواطن، الذي يعاني أصلاً من تدني الرواتب والأجور، وبالتالي ضعف القدرة الشرائية. والآن يطلعون علينا بقرار تحرير أسعار السماد، ألا يكفيهم ما دمروا من زراعتنا، ألا يكفيهم ما دمروا من ثروتنا الحيوانية، فبسبب سياسات هذه الحكومة، التي جاءت أخطر من الظروف المناخية المتغيرة وقلة الأمطار وموجة الجفاف التي طالت الثروتين النباتية والحيوانية، وفَقَد أكثر من 150 ألفاً من المزارعين ثرواتهم الحيوانية، وتراجع إنتاج القمح إلى أقل من النصف... أطماع التجار ليس لها حدود، وليس لها ضابط ولا رادع، والمواطن يقف بين مطرقة الغلاء وسندان تدني الأجور والرواتب»
ـ المواطن هيثم ز. قال: «سياسات كهذه تدعو إلى تحرير الأسعار، وغياب السياسات الحمائية بسبب النظام الاقتصادي الذي يسير حسب تعليمات البنك الدولي، وعدم فعالية أجهزة المراقبة، كل ذلك يجعل التجار يتحكمون بالأسعار حسب مقتضيات مصلحتهم الخاصة وطمعهم وروحهم الاحتكارية، فالأسعار ارتفعت أكثر من ارتفاع الأسعار العالمية، حتى لو كانت البضائع بالتكاليف البسيطة، ولكن الأسعار الداخلية لبعض المواد الهامة لم تنخفض بالنسبة نفسها التي انخفضت بها الأسعار العالمية، بحجة أن رأسمالها عالٍ، لذلك فالتاجر يربح ربحاً مضاعفاً مرتين، مرة حين ترتفع الأسعار، ومرة حين تنخفض، لأنه يحافظ على المستويات المرتفعة للأسعار»
التاجر حسام ن. قال: «السوق في حالة جمود منذ أشهر، فالطلب خفيف والبضائع تملأ المستودعات، والمواطن لا يملك المال لينفقه، فالغالبية العظمى من المواطنين، من ذوي الدخل المحدود، ومع ذلك تطلع الحكومة كل يوم بقرار يزيد الطين بلّة. ورفع تكاليف الإنتاج الزراعي لن ينعكس إلا أزمات وارتفاعات جديدة في الأسعار، ما يهدد بنشوء مشاكل وتوترات اجتماعية».
حتى الحركة السياحية تراجعت
ظاهرة الركود وضعف الحركة في الأسواق ترافق مع انخفاض طبيعي في الحركة السياحية، مقارنة مع الأعوام السابقة، وكان السبب الرئيسي في ذلك تحرير الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة، وخاصة ارتفاع أسعار الطاقة والمحروقات، كما أثر ذلك على ارتفاع أسعار المواد الأولية، مقابل انخفاض أسعار المنتجات في الأسواق الخارجية. وكانت حركة السياحة قد عانت في السنة الماضية من جمود وتراجع كبيرين عبرت عنهما عروض شركات الطيران، التي خفضت أسعار تذاكرها بشكل كبير، وإذا استمرت الحكومة بسياسة تحرير الأسعار فإن قطاع السياحة سيتأثر سلباً، وستكون هذه السياسة عائقاً في طريق تطوره وتقدمه، هذا القطاع الذي يُعتَمَد عليه في تأمين القطع الأجنبي، بعد انخفاض إنتاج النفط. إن سياسة تحرير الأسعار المستندة إلى تعليمات البنك الدولي هي سياسة مدمرة للاقتصاد بكل مقوماته، الزراعية والصناعية والتجارية والسياحية. وإن استمرار الحكومة بانتهاج هذه السياسة يعني أمراً واحداً محتوماً، هو جرنا نحو الهاوية، وإلحاقنا بركب الانهيارات الاقتصادية، التي لا يتحملها اقتصادنا الضعيف أساساً، بسب ممارسات النهب والفساد وتدمير وخصخصة منشآت ومكتسبات القطاع العام... وبناء عليه فإن ملامح وصول تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية إلى اقتصادنا قد باتت وشيكة، تحملها إلينا تعليمات البنك الدولي، وتنفذها الحكومة بتحرير التجارة وإقامة سوق الأوراق المالية، وتوقيع الشراكة الأوروبية.
إن أهم عوامل مواجهة الأزمة الاهتمام بقطاعي الإنتاج الحقيقيين، الزراعة والصناعة، ومن هنا فإن على الحكومة التراجع عن سياسة تحرير التجارة ورفع الدعم عن الأسعار، وعليها استعادة دورها الرعائي لضبط المعادلة الاقتصادية، وتقريب الفجوة الكبيرة بين الأجور والأسعار، وتخفيض الأعباء عن الفلاحين والعاملين في القطاع الزراعي ذي الطابع الحيوي الهام، برعاية وضمان صندوق الدعم الزراعي، للوصول إلى إنتاج استراتيجي وفير، بتكاليف مقبولة، يستطيع الفلاحون تحمُّلها، وتعود عليهم بمردود يضمن إعادة إنتاج المواسم مرة أخرى، وفي ذلك ضمان لأمن الوطن والمواطن.