المنطق الاقتصادي يؤكد جدوى الحفاظ على القطاع العام.. د. فضلية: الأنظمة المالية أكلت الشركات لحماً ورمتها عظماً
شكل إعلان المؤسسة العامة للصناعات الغذائية- المثير للجدل- القائل: «إن لا جدوى من إصلاح العديد من الشركات لا من الناحية الفنية ولا حتى الاقتصادية، ولا يمكن إنقاذ هذه الشركات»، شكّل تأكيداً على أن الكثير من إدارات المؤسسات العامة- العاجزة حالياً- باتت تستسهل إعلان عدم الجدوى من هذه الشركات، لتريح نفسها من القيام بدورها المفترض في إصلاح القطاع العام، وتحمل مسؤولية ما اقترفته هذه الإدارة والإدارات التي سبقتها من أخطاء بحق هذه المؤسسة أو تلك.
عند هذه النقطة أوضح د. عابد فضلية- الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق- لـ«قاسيون» أن الطرح الحالي للمؤسسة العامة للصناعات الغذائية مقبول على الشركات الخاسرة إذا ما بقيت على وضعها الحالي، حيث إن عشرات السنين قد مرت على هذه الشركات دون تجديد خطوط إنتاجها أو حتى صيانتها، كما تعاقبت إدارات مختلفة على هذه الشركات دون أن تقوم بأية عملية إصلاح جديدة أيضاً، حتى وصلت هذه الشركات إلى ما هي عليه من التردي، وبالتالي فإن الواقع الحالي لهذه الشركات هو نتيجة ممارسات المرحلة السابقة، ولكن السؤال لماذا تم إيصال هذه الشركات إلى هذه الحال؟!
أما من ناحية الجدوى، فأوضح د. فضلية أن الجدوى موجودة حتى في شراء الآلات الجديدة، أو البناء الجديد، أوفي تأسيس شركة جديدة، فلا يمكن القول إنه لا يوجد جدوى من تجديد الآلات مثلاً، لأن الاستبدال شأنه شأن الجديد، والجدوى موجودة في كل جديد، ولكن إذا كان المقصود بقول إدارة المؤسسة الغذائية إن الإدارة ستبقى بيروقراطية، والإنتاجية ستبقى ضعيفة، والتسويق سيبقى معدوماً، وستبقى هذه الشركات متخمة بما يلزم وبما لا يلزم من العاملين، فعندها فعلاً أقول إنه لا توجد جدوى!.
وتابع فضلية بالقول: نظرياً، ومن حيث المنطق الاقتصادي، الجدوى موجودة، إلا أن التفكير بعقلية السنوات العشرين السابقة بالعقلية الإدارية السابقة، يعتقد أنه لا وجود للجدوى، فعند التفكير باستبدال خط أو معمل جديد يجب تخطيطه على أسس اقتصادية ذات جدوى، بتفكير علمي، وبمستوى فني وإداري متطور، فإذا توفرت العقلية الإدارية المتطورة، والإدارة المالية، وإدارة التكلفة، والتسويق الحديث، وحملات الترويج والتغليف والتعبئة، فإن أي مشروع سيكون فاعلاً وناجحاً بالتأكيد.
لهذه الأسباب لم يتم تجديد الآلات
هذا الواقع المتردي الذي وصلت إليه هذه المؤسسات العامة بمعظمها، وهو الواقع الذي تعترف بجزء كبير منه أغلب الإدارات في القطاع العام وتحديداً حين يتعلق الأمر بواقع الغذائية وشركاتها، لكن السؤال الأهم: لماذا وصلت هذه الشركات لهذه المرحلة من التراجع دون إنذار مسبق بتراجعها أو التفكير بإصلاحها قبل عشر سنوات مثلاً، خصوصاً وأن لعامل الزمن أهميته الكبرى في العملية الإصلاحية؟! ومن يتحمل مسؤولية الخسارة؟!.
وأشار د. فضلية بداية إلى أنه لا يمكن تحميل المسؤولية إلى جهة محددة واحدة، فمن يتحمل المسؤولية هو جملة من العوامل، والتي من أهمها:
ـ التشريعات والأنظمة والقوانين الناظمة لعمل المؤسسات الحكومية.
ـ الإدارات المركزية والوزارات.
ـ الفساد الإداري والمالي لبعض موظفي هذه الشركات.
ـ كما أن هناك تشريعاً أساسياً يتعلق بوزارة المالية، والذي كان يجبر هذه الشركات العامة سابقاً على توريد أرباحها إلى الخزينة العامة، دون أن يترك مقداراً كافياً من الأموال لتجديد خطوط إنتاج هذه المؤسسات، هذا بالإضافة إلى اقتطاع مبالغ الاهتلاكات (أقساط الاهتلاك)، وهذا التشريع لم يتغير إلا منذ عدة سنوات، حيث سمح لهذه الشركات باستخدام جزء من أرباحها في تجديد الآلات وعمليات الصيانة، لكن وقت إصداره جاء متأخراً إلى حد يمكن معه القول: «إن الأنظمة المالية النافذة أكلت هذه الشركات العامة لحماً ورمتها عظماً». ولهذه الأسباب- يرى د. فضلية- أنه لم يتم تجديد آلات وخطوط إنتاج هذه الشركات خلال العقود الطويلة الماضية.
العقل التطويري
عاجز في المؤسسات العامة
تم إنشاء هذه الشركات والمعامل منذ أكثر من ثلاثين عاماً من أجل استيعاب الفائض من المحاصيل الزراعية، والمنتجات الحيوانية، وتصنيعها، والآن مع تراجع الزراعة السورية، وتدني نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي في العام الحالي إلى 14,5% بدلاً من 27% في الخطة الخمسية التاسعة، فهل يمكن القول إنه لا يوجد مبرر لبقاء هذه الشركات أساساً مع انعدام الفائض من المحاصيل الزراعية؟!.
وبيّن د. فضلية أن المادة الأولية متوفرة، لكن آلية عمل هذه الشركات العامة معقدة وبيروقراطية، وإداراتها مصابة بالترهل التنظيمي والفني والتسويقي، وهذا أدى بدوره إلى ارتفاع تكلفة الحصول على المادة الأولية، فنوعية البيرة المنتجة في معامل «الشرق» أو «بردى» تعد أفضل من 99% من أنواع البيرة المستوردة من أوروبا ومختلف دول العالم الأخرى، إلا أن زجاجة البيرة في هذه الشركات مثلاً لم تتغير منذ إنشاء المعمل حتى الآن، وآلية التسويق لم تتغير، ولا حتى التوزيع، وهذا دليل على عجز العقل التسويقي والتطويري في هذه المؤسسات.
فلماذا لم تقترح الإدارة العامة لهذه الشركة تسمية وكلاء أو تطوير العبوة إلى معدنية وبأحجام مختلفة المرفقة مع دراسة الجدوى الاقتصادية لها؟!
الفساد اكتنف صفقات الاستثمار
اقترحت المؤسسة الغذائية ضرورة إيقاف عمل بعض شركاتها، ومن ثم طرحها للاستثمار السياحي، أو الخدمي، أو حتى نقل ملكيتها إلى جهات أخرى في الدولة، فما القول حول هذا الاستثمار؟!.
شدد د. فضلية على أنه «لا رأي لمواطن أو لعاقل في ذلك لأن موضوع الطرح للاستثمار بات أمراً واقعاً»، بمعنى أن هذا الطرح أصبح حقيقة وضرورة في أن معاً، وذلك تلافياً لمزيد من الخسائر والهدر، ولكن يجب أن تطرح هذه الشركات للاستثمار بآليات مناسبة، وعائد عادل، ومجز، لأن بعض أبنية هذه الشركات تحتاج له المؤسسات العامة، والبعض الأخر يتم بيعه بالمزاد العلني، وجزء أخر يعطى للقطاع الخاص لاستثمار، ولكن طرح هذه الشركات والمعامل يجب أن يكون شفافاً، أي أن يطرح بالمزاد العلني، ويلزم بقيمته الفعلية العادلة، لأن تجارب معظم دول العالم النامية والمتطورة في هذا المجال كان عبارة عن صفقات اكتنفتها الشكوك والفساد مثل مصر والاتحاد السوفيتي مثلاً، حيث بيعت فيها الملكيات العامة بأقل من 10 % من قيمتها الحقيقية، وهذا هو هاجس المواطن العادي والعمال، حيث نخشى من إهداء هذه الشركات إلى الآخرين كونها ملكية الشعب، وبالتالي تظلم الخزينة وتهدر الأموال العامة من جهة، وتضيع حقوق العاملين بهذه الشركات من جهة أخرى، وهذان أهم محذورين في عملية الطرح الحالية للاستثمار.
واقترح د. فضلية أن يتم تحويل هذه الشركات العامة الخاسرة إلى شركات مساهمة، يعطى فيها العمال أفضلية شراء الأسهم، ولكن بأسعار رمزية..
وعند سؤال د. فضلية عن الأسباب التي تقف بوجه طرح هذه الشركات للاستثمار بشرط الإبقاء على نشاطاتها الحالية ذاتها دون تحويلها إلى سياحية أو خدمية، أكد أنه لا يرى ضرورة طرح هذه الشركات على الاستثمار بذات النشاط السابق، لأن المنتج الذي تنتجه يخضع للمنافسة من القطاع الخاص الصناعي والمستورد، فيمكن إقامة أي نشاط مجد سواءً كان شبيها أو مختلفاً عن النشاط الحالي، فالأهم هو الجدوى الناتجة من هذا الطرح على الاقتصاد الجزئي والكلي.