تخفيض الإنفاق الاستثماري يفاقم الأزمات المعيشية
لم يعد خافياًَ على أحد التأثير السيىء لحالة الخوف وتوجس الكوارث المعيشية عند المواطن السوري، عند أي قرار أو حتى مجرد شائعة حول أية زيادة قد تطرأ على الأجور والرواتب، حيث يستغل التجار وأصحاب قرار الأسعار والتحكم بالسوق الداخلية، سلفاً، فرحة المواطن وبصيص الأمل الذي يبشره بالفرج، ولو قليلاً، ليحوِّلوا هذه الفرحة إلى عبء جديد وهم إضافي يضاف إلى مصاعب لقمة العيش، عن طريق رفع أسعار السلع والمواد الاستهلاكية لامتصاص هذه الزيادة بأضعاف مضاعفة.
إن مواطننا السوري راح يدرك بحسه الطبقي الآثار المرعبة لآليات عمل الاقتصاد السوري، يضاف إلى ذلك أن السياسات الحكومية بدأت تنسحب من الشأن الاقتصادي والاجتماعي بشكل عملي منذ منتصف الخطة الخمسية التاسعة وخلال الخطة الخمسية العاشرة، وظهرت بوضوح ونفذ قسم كبير من النوايا الحقيقية للفريق الاقتصادي للانسحاب من هذا الشأن، والسير في توجه ليبرالي تمليه تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي أكد ذلك في تقريره حول الاقتصاد السوري الصادر في عام 2008، وجاء فيه «أن النفقات الجارية والإنمائية كانت في عامي 2003 و2004 قد مُنِحت نسبة 31.4% من الناتج الإجمالي، خُصِّص منها 13.7% للنفقات الإنمائية، وفي عام 2005 انخفضت النفقات الجارية والإنمائية إلى 28.4%، وفي عام 2006 انخفضت مرة أخرى إلى 27.6%، رغم الارتفاع الكبير في الموازنة العامة للدولة. ثم في عام 2007 انخفضت إلى ما دون 27%، وكانت النفقات الإنمائية منها 8.6% فقط. علماً أنها كانت في العام 1980 نحو 48.7%».
وقد أكد هذا التراجع بيان وزارة المالية حول الموازنة العامة للدولة، الصادر عام 2009 عن السنوات السابقة والذي جاء فيه «بلغت اعتمادات الإنفاق الاستثماري في موازنة عام 2004 مبلغ 217 مليار ل.س وانخفضت عام 2005 إلى 180 مليار ل.س، وفي عام 2006 بلغ الإنفاق الاستثماري 199 مليار ل.س، بينما وصل الإنفاق الجاري إلى 300 مليار ل.س».
ويتابع بيان وزارة المالية: «يترافق خفض الإنفاق الاستثماري مع عجز الموازنة بلغ عام 2008 مبلغ 192.2 مليار ل.س وبنسبة 9.83% من الناتج الإجمالي المحلي البالغ 1955 مليار ل.س، بينما عام 2007 فقد بلغ عجز الموازنة 84 مليار ل.س وبنسبة 5% من الناتج الإجمالي، وانخفضت العائدات النفطية من 137.9 مليار ل.س لعام 2006 إلى 100 مليار ل.س لعام 2007، وانخفضت الفوائض الاقتصادية عام 2006 من 132.9 مليار ل.س إلى 110 مليار ل.س في عام 2007. وأصبح المصدر الوحيد للإيرادات هو الضرائب والرسوم التي ارتفعت من 251 مليار ل.س لعام 2005 إلى 297 مليار ل.س عام 2006، بينما زادت عائدات الضرائب والرسوم عن 320 مليار ل.س في عام 2008، وقد بلغ حجم الديون أكثر من 460 مليار ل.س أي ما يعادل الميزانية العامة لعام 2005».
ففي سياق هذا التخفيض جمدت الحكومة العمليات الاستثمارية في القطاع العام وحدت من أي توسع أو استثمار في الصناعات التحويلية. وإن اتِّباع هذه السياسة كان أحد أهم العوامل التي أدت إلى انفلات الأسعار ووصولها إلى حدود غير مقبولة وغير مسبوقة، وأصبحت الأسعار في ظل هذا التوجه تتحدد وفق المصلحة التي يقررها راس المال الاحتكاري وحيتان التجارة، الذين لا يلتقون إلا للحديث عن رفع للأسعار وتخفيض للأجور، ما جعل الهوة بينهما تزداد اتساعاً وعمقاً بشكل خطير.
نتيجة لهذه السياسات (غير الاجتماعية) ازداد عدد الفقراء في سورية وارتفعت معدلات الفقر بشكل خطير، فحسب الدراسات الإحصائية التي أجرتها بعض المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة عام 2004، فقد بلغت نسبة الفقراء في سورية 30% من عدد السكان، أي ما يزيد عن 5.3 مليون نسمة، (علماً أن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير) وبلغت نسبة البطالة الشبابية، في مقتبل العمر الإنتاجي للفرد، 24% من مجموع نسبة العاطلين عن العمل والتي تقدر بـ38% من مجموع القوى القادرة على العمل في سورية، وهناك 380 ألف شخص يدخلون سوق العمل سنوياً، معظمهم لا يجدون فرصة عمل ويضافون إلى سوق البطالة.
إن السياسات الاقتصادية المتبعة، والسير في التوجه الليبرالي أدت إلى ما رأيناه من كوارث اجتماعية ومشاكل معيشية وأزمات خانقة ومن المرجح في ظل الظروف الدولية الراهنة، أن الأيام القادمة محملة بتراجعات أكبر، نظراً لتمادي أصحاب القرار الاقتصادي والقطاع الخاص والتجار وحيتان الاحتكار، بانتهاك حقوق المواطنين والتحكم الجشع بالأسواق ومصادر العيش.
يجب إعادة النظر بمجمل القرارات الاقتصادية الجارية، حيث يجب أولاً وقبل كل شيء التخلي عن رفع الدعم عن المحروقات، الذي لم تجد الحكومة حتى الآن آلية ناجعة للتعويض على المواطنين المتضررين، وقد كان هذا القرار سبباً لارتفاع أسعار المواد الغذائية والتموينية والاستهلاكية التي تمس بشكل مباشر استمرار حياة المواطنين.
يجب التوقف والتراجع عن تحرير الأسعار والتحرير المالي، واستعادة الدولة لدورها الرعائي والرقابي، وضبط حرية الاستثمار والتجارة حسب ما تقتضيه شروط ومتطلبات التنمية الوطنية التي تحقق الاستقرار والأمن الغذائي وللمواطن، كما يجب إعادة الاعتبار والمكانة الفعلية لقطاع الدولة الإنتاجي بكونه الرائد الحقيقي في النهوض التنموي في الظروف الراهنة.