ليرة الفقراء: حاجاتهم الشهرية.. وليرة الأغنياء: طريق للدولار
تتحدد قيمة الليرة بالنسبة للسوريين من أصحاب الأجر، بمقدار ما تستطيع هذه الليرات المجنية من ساعات عملهم أن تقابل بضائع وخدمات تستطيع أن تعيد تجديد إنتاج قوة عملهم، فإن استطاعت 10 ليرات يومياً أن تحقق الحاجات، أو 1000 ليرة فلا فرق، المهم أن العملة تقوم بدورها الوظيفي الأساسي بالنسبة لعموم السوريين، كمقياس القيم، وأداة للتداول..
ووفق هذا المقياس الموضوعي لقيمة الليرة السورية من حيث وظيفتها الأهم، فإن الليرة قد تراجعت وتستمر بالتراجع، وستستمر طالما أن الأجور تتراجع والأرباح تزداد! فكم تراجعت قيمة الليرة المعبر عنها، بسعر صرفها مقابل الدولار، وفق هذا المعيار؟!
عشتار محمود
إن 30 ألف ليرة شهرياً، كانت مبلغاً قادراً على تأمين الحاجات الضرورية لأسرة مكونة من خمسة أشخاص في عام 2010، وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء، حول الإنفاق الوسطي للأسر السورية. أما في الشهر الرابع من 2016، فإن تأمين الحاجات الضرورية لأسرة من خمسة أشخاص أصبح يتطلب 196 ألف ليرة وسطياً، أي قرابة 200 ألف ليرة.
من 50 إلى 330 ليرة مقابل الدولار
أي أن 30 ألف في 2010 كانت تعبر عن مقدار من البضائع والخدمات، التي أصبحت تحتاج إلى 200 ألف ليرة في عام 2016 لتقابلها، وعملياً ارتفعت الأسعار أكثر من 6 مرات ونصف، وانخفضت قيمة العملة بمقدار 85%.
وإذا ما اعتبرنا أن الدولار هو سعر الليرة، فقد كان 50 ليرة في 2010، وعليه أن يصبح عملياً 330 ليرة مقابل الدولار. أي وفق هذه الطريقة، فإن هذا هو سعر الصرف المنطقي في بداية الشهر الرابع من عام 2016. إلا أن سعر الصرف كان في حينها 500 ليرة، وارتفع خلال شهر ليصل إلى 620 ليرة مقابل الدولار، وهو يتراوح اليوم قريباً من 470 ليرة مقابل الدولار، فلماذا لا يتطابق سعر الصرف المعبر عن قيمة العملة، مع قيمتها المحددة سابقاً؟!
الأغنياء يحررون خزائنهم من الليرة
إن أكثر من 80% من السوريين الموجودين داخل البلاد، لا تهمهم من وظائف النقود، سوى أنها وسيلة دفع، أي تستخدم في التداول، ولقياس قيم البضائع والخدمات التي يحصلون عليها مقابلها. وهؤلاء لا يعنيهم سعر الصرف، والدولار، إلا من موقع تأثيره على قدرة الليرة على شراء السلع والخدمات..
بينما القلة القليلة من السوريين، التي تجني الأرباح بكميات كبيرة شهرياً، وتمتلك فوائض تريد أن تكتنزها وتحافظ على قيمتها من الخسارة، أو تريد أن تستثمر بها، فهؤلاء هم المعنيون بالوظائف الأخرى للنقود، أي الاكتناز والاستثمار.. فإذا ما كانت قيمة الليرة تتراجع موضوعياً بسبب ظروف تراجع الإنتاج، فإن هؤلاء يسعون للتخلص منها، ولا يريدون إبقاءها في خزائنهم.. وهم بذلك يؤمنون بيئة المضاربة التي تفاقم من تراجع قيمة الليرة، وتزيد الدولار، لأنهم لا يريدون الاكتناز بالليرة التي تتراجع قيمتها، فيستبدلونها بالدولار، مساهمين في مزيد من تخفيض قيمتها.
وهم لا يريدون أن يستثمروا بالليرة كذلك الأمر، لأسباب موضوعية تتعلق بتراجع عمليات التشغيل الكبرى في سورية بسبب ارتفاع المخاطر، حيث أصبح الاستثمار الرئيسي لكبار السوق المستمرين بالعمل داخل سورية، هو النشاط التجاري، الذي أصبح مرتبطاً بالدولار، وأحد أهم العوامل الضاغطة على الليرة. ويضاف إليه نشاط المضاربة بأشكاله سواء على العملة أو على البضائع، أو على العقارات، وهو من أهم الاستثمارات لقوى المال الكبرى ولا ينفصل عن التجارة كثيراً. حيث المضاربة مجال ربح مضمون، يتيح تشغيل الأموال المجنية بالليرة والمكتنزة بالدولار، ويؤدي إلى تخفيض قيمة الليرة بشكل متواتر.
مصلحة الأغلبية قوة الليرة
عملياً الجزء الأعظم من السوريين سواء من أصحاب الأجور، أو من أصحاب الدخول الصغيرة من الورش والمحلات والأراضي الزراعية الصغيرة، يهتمون ببقاء قيمة العملة المحلية مرتفعة، لأنها بهذه الحالة تمكنهم من مقابلتها بعدد أكثر من السلع والخدمات، سواء للاستهلاك أو للإنتاج. وهو ما يعني انخفاض الأسعار.
أما القلة القليلة، والتي تملك جل الأرباح والفوائض اليوم، فهؤلاء لا مصلحة لهم في ارتفاع قيمة العملة، وأصبحت مصلحتهم مرتبطة بارتفاع الدولار، وحتى باضطراب سعر الصرف في السوق، بما يتيحه من مضاربة حالياً لمن يمتلك فائضاً من القطع الأجنبي، وفائضاً بالليرة. ومصلحة هؤلاء وسلوكهم هو ما يحدد ارتفاع سعر الصرف.
وعندما تكون السياسات الاقتصادية قائمة على إلغاء دعم الإنتاج، ودعم المواد الغذائية، ومنع الدولة من لعب دور كتاجر جملة، رغم توفر فرصة الخطوط الائتمانية بملياري دولار للاستيراد الحكومي المباشر، وعندما تثبت الأجور النقدية التي أصبحت أشبه بمعونة، معطية الإشارة للقطاع الخاص بفرصة سانحة لاستغلال ظرف القوى العاملة السورية، والاستفادة من (رخص الأجور) وغيرها من السياسات، عندما تكون السياسات الاقتصادية هكذا فإنها تتحمل المسؤولية في فقدان الليرة لقيمتها، نتيجة تجاهل تام لحاجة الأغلبية العظمى من السوريين لأسعار منخفضة لحاجاتهم، سواء صعد الدولار أم هبط!
السياسات تكتيك مؤقت لا أكثر!
السياسات الاقتصادية تسخر الاحتياطيات والموارد، لتدخل في لعبة السوق، وتلبي طلبات القلة القليلة على الدولار للاكتناز والاستثمار التجاري والاستثمار في المضاربة. وأصحاب السياسات يتباهون اليوم بتحقيقهم لتخفيض في سعر الصرف بتكتيك وهمي، قائم على حبس الليرة أولاُ، ثم ضخ الدولار للسوق، لتشتريه (برخص)، وهو المجمع من الحوالات المرسلة للسوريين، التي يزداد تدفقها في هذا الشهر، وتتركز اليوم لدى المركزي نظراً لرفعه سعر الحوالات عن سعر السوق. ومقابل هذه التكتيكات المؤقتة، تترك السياسات وراء ظهرها الطرق الممكنة الفاعلة كلها جدياً في تجنيب الليرة، وحماتها، من أصحاب الأجر والدخل الصغير، ومن آثار ارتدادات وانتكاسات كبرى ستسعى لها قوى المال والدولار.