بين تناقص الموارد وازدياد الإنفاق... أصحاب الأرباح يتحوّلون إلى عبء

تتزايد نفقات الحكومة وصعوبات مواجهتها للأزمة الاقتصادية حيث تبقى موارد مؤسساتها واحتياطاتها السابقة واستثماراتها بينما تتهاوى مفاهيم التشاركية في لحظة الازمة.. وتحديداً تحت ضغط موارد القطاع الخاص المحلي والخارجي المتناقصة، فلا تملك الحكومات اليوم في لحظات الهشاشة الاقتصادية، أن تثبت أقدام الموارد الطارئة، التي اعتمدت عليها كنهج سابق عندما أعلنت أن استراتيجية « تحسين المناخ الاستثماري» هي المطلوبة من قطاع الدولة لمواجهة واقع نقص الاستثمار في سورية الذي لا يتجاوز 25% من الناتج المحلي الإجمالي، ووضعت التحفيز أحد العناوين الرئيسية،ولكنه العنوان الوحيد الذي دخل حيز التطبيق، لتتراجع استثمارات الدولة الفعلية ويزداد فقط ما يتعلق بتشريعات الجذب الاستثماري للقطاع الخاص فأعطيت الإعفاءات والتنازلات والتخفيضات الضريبية وقدمت أراضي الدولة، وعدلت قوانين العمل وحققت سورية بالمفهوم الليبرالي تقدماً كبيراً في تهيئة البيئة التشريعية المناسبة.

الإيرادات المتراجعة

تقف الدولة اقتصادياً اليوم في موقف صعب عندما تعلن في موازنتها أن إيراداتها قد انخفضت في عام 2012 لتصل التقديرات إلى موارد بـمقدار 643 مليار. بينما تراجعت إيرادات الضرائب لتصل حدود 180 مليار ل.س.فالأزمة تكشف إيرادات الدولة الهشة وإيراداتها الأكثر قدرة على الثبات.

مواضع خلل في الإيرادات العامة

إيرادات البترول

يشكل الاعتماد على البترول وعوائده جزءاً اساسياً من الإيرادات السورية، ومن إيرادات القطع الأجنبي، مع توسع قطاع الصناعة الاستخراجية منذ الثمانينيات ساهم بتغطية الكثير من العيوب والنواقص والتغيرات الهيكيلية في تركيبة الايردات السورية، وتحديداً في هيكل الضرائب غير المتوازن والمنحاز لمصلحة الأرباح، إلى تشوهاتها المتمثلة باتساع ضريبة الدخل المقطوع وما تسمح به من تهرب ضريبي وصلت تقديراته إلى 300 مليار ل.س

بلغ إجمالي الإيرادات العامة الواردة في تقديرات موازنة 2012: 799 مليار ل.س

كانت تقديرات الإيرادات البترولية منها : 343,5 مليار .

بالمقابل ضريبة دخل الأرباح الحقيقية على النفط : 96 مليار ل.س

أي أن مساهمة البترول من الإيرادات العامة :439 مليار وهو ما نسبته 54%.

تعرضت هذه الإيرادات المتوقعة لتراجع بنسبة كبيرة بنتيجة تراجع الإنتاج وصولاً لتوقفه لفترات، مقابل انسحاب جزء هام من الشركات العاملة، وتوقف إيراداتها وحصة الدولة من استثماراتها. أي أن أكثر من نصف الإيرادات العامة  تعرض لتراجع كبير يزيد على نسبة 70% إذا ما قيس بتراجع الإنتاج النفطي.

الضرائب السورية الكفة الراجحة لأصحاب الربح

أعلن من أرقام موازنة 2013 أن تراجع إيرادات الضرائب بلغ مقدار 32% لتصل إلى 180 مليار ل.س فقط. تراجع الضرائب لا يتعلق بالأزمة وتراجع النشاط الاقتصادي فقط، بل إن تشوهات النظام الضريبي لها الدور الأكبر في هدر موارد ضريبية كبيرة في هذا العام وتاريخياً، ويدل على ذلك أن مساهمة الضرائب في الإيرادات الحكومية ما قبل الأزمة وفي تمويل الموازنة، مساهمة ضعيفة، ما ينتج عنه غياب لدورها كأداة مالية لإعادة توزيع عادل للدخل من جهة، وكمورد حكومي ثابت ودقيق.

ضرائب أرباح الشركات

فالعنوان العريض الذي وضع لتحسين مناخ الاستثمار في سورية، كان اعتماد الدولة على  الإعفاءات الضريبية والتغيير في ضرائب الأرباح وضرائب الشركات أبرز وجوهه في سورية.

حيث خفض الحد الأعلى لضريبة الأرباح من 35 إلى 28%.

بينما خفضت ضرائب الشركات المساهمة المكتتبة بنسبة 50%، إلى 14%.

والمعدل الضريبي للشركات المساهمة خفض من 25% إلى 22%. وذلك بغض النظر عن نشاطها لتشمل الشركات الصناعية والتجارية والخدمية.

اعتبر تسجيل العمال في التأمينات الاجتماعية ميزة، حيث قدمت التسهيلات والتخفيضات للشركات بناء على عدد عمالها المسجلين في التأمينات الاجتماعية.

بينما بقيت جهات القطاع العام الاقتصادي خاضعة للحد الأعلى من ضرائب الأرباح 28% أياً كانت أوضاعها الاقتصادية. 

ضريبة دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية

تقديرات الضرائب والرسوم مستثنى منها إيرادات النفط لعام 2012 بلغت:  146,6 مليار ل.س. لتغطي نسبة 18% فقط.

هذه النسبة الضئيلة لا تعود إلى توقعات عام 2012 وارتباطه بالأزمة، بل ترتبط بإشكاليات الضرائب في سورية وسوء إدرتها. حيث أن82% من هذه الإيرادات المتبقية بعد استثناء إيرادات ضرائب النفط تنتج عن إيرادات ضريبة دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية التي قدرت بـ 120 مليار، إلا ان تشوهات هذا البند الضريبي وعموميته تعتبر أهم إشكالات تراجع إيرادات الضرائب وموارد الدولة.

يشمل هذا المطرح الضريبي أغلب نشاط القطاع الخاص بمستوياته المختلفة، من الشركات الصناعية الكبرى، إلى تجارة الجملة والمفرق إلى كافة المهن الخاصة ( الأطباء، المستشفيات الخاصة، المدارس الخاصة...) ليضم المطارح الضريبية لأوسع فئات الإنتاج الاقتصادي في سورية وعدم تفصيله وتبويبه ببوابات فرعية هو ثغرة تسمح بضياع حصة كل قطاع من الضرائب.

يغلب على حسابات ضرائب الدخل في هذا البند اعتماد ضريبة الدخل المقطوع حيث عدا عن الشركات الصناعية المساهمة، فإن أغلب المهن والصناعات الصغرى، وتجارة الجملة والمفرق تحصى ضرائبها وفق ضريبة الدخل المقطوع، أي تقدر أعمالها وإيراداتها بتقديرات كل ثلاث سنوات وتجبى الضريبة على أساسها، مع كل ما يسمح به هذا التقدير من تلاعب وعدم دقة وموضوعية. ليشكل البوابة الشرعية للتهرب الضريبي.

فعلى سبيل المثال اعتبرت وزارات المالية المتعاقبة أن أموال التجار وأعمالهم هي مطرح ضريبي صعب تحديده، مما يؤدي إلى اعتماد تقديرات تجعل بعض التجار يدفعون ضرائب سنوية أقل من ضريبة دخل الراتب السنوي لموظف دولة. وتعتبر مثلاً أن المستشفيات الخاصة والمخابر والاطباء ومكاتب الهندسة والمحامين وغيرها من المهن من الصعب أن توثق ببيانات مالية سنوية تسمح بتحديد مطرح ضريبة سنوي.

وفي وقت الازمة تتراجع التقديرات بشكل كبير على الرغم من أن بعض المكلفين في هذا البند هم من المستفيدين من الازمة الحالية. 

مفارقات

تشير الأرقام التالية إلى بعض المفارقات التي تعبر عن تشوه الضرائب في سورية.

 انحيازها باتجاه الأرباح وأصحاب رؤوس الأموال مقابل الأجور.

بحسب الأرقام التقديرية لموازنة 2012

ضريبة رؤوس الأموال

ضريبة

ريع العقارات

ضريبة دخل

الرواتب والأجور

1,2مليار

1,8 مليار

12 مليار

 بعض القطاعات الأساسية في تركيبة الناتج السوري وما يترتب عليها من التزامات :

 

الاستيراد 812 مليار

الرسوم الجمركية

  30 مليار

الصناعة التحويلية للقطاع

الخاص + تجارة الجملة والمفرق 425 مليار

ضريبة دخل المهن

والحرف الصناعية والتجارية 120 مليار

أخذت أرقام عام 2010 لتقدير قيمة الناتج الصافي في القطاعات المذكورة، والتي تعتبر أعلى من قيمة الناتج الصافي في عام 2012، لكن بالمقابل أخذت قيمة ضريبة دخل المهن والحرف بإجمالها للمقارنة مع حجم صناعة القطاع الخاص التحويلية وتجارة الجملة والمفرق، مع العلم أن الضريبة تشمل فئات أوسع من هذه الفئة بكثير.والأرقام للإشارة إلى الهوة بين حجم هذه القطاعات ومساهمتها في الناتج مقابل ضآلة إيرادات الدولة منها.

نتائج التشوه والانحياز

على الرغم من أن حجم التكليف الضريبي غير متسع في سورية، ولا يشمل الكثير من الموارد والأرباح المتحققة، فإن المكلفين المعروفين والقطاعات المبوبة بشكل صحيح تقدم لها اليوم الكثير من التسهيلات لتسدد ضرائبها المتراكمة والمتأخرة حيث تقسط ضرائبهم على أقساط شهرية لأكثر من عام ولمدة تصل لثلاث سنوات، مقابل تسديد قيمة 5% من قيمة الضريبة المستحقة، وذلك بتخفيض عن نسبة 25% السابقة التي كانت مطلوبة.

القروض من مورد إلى عبء

بلغت في عام 2010 تسليفات المصارف للقطاع الخاص 620،729 مليار ل.س.

القروض التي أعطتها المصارف العامة للقطاع الخاص في سورية تحولت في الازمة إلى عبء على الحكومة من جانبين، أولهما أن الحكومة تضطر لتقديم التسهيلات والجدولات المتكررة في سعيها لتحصيل القروض المتعثرة والتي تبلغ 245 مليار حسب تقديرات المصرفيين، متخلية عن جزء هام من الفوائد، وممدة فترات السداد مع المخاطر المترتبة على ذلك، أما العبء الثاني فهو إعادة الجدل الضروري حول مدى كفاءة الضمانات المقدمة مقابل هذه القروض، حيث ان النتائج تشير إلى تقييم هذه السياسة فالملاءة المالية التي كانت المعيار الأساسي للإقراض لكبار المستثمرين لم تساعد في تحويل أقساط هذه القروض وفوائدها إلى مورد حكومي. بل تحولت إلى تفاوضات تتنازل فيها الحكومة شيئاً فشيئاً أمام رجال الأعمال المقترضين والممتنعين عن السداد. حيث أصدرت الحكومة مع بدايات الازمة، في عام 2011 المرسوم الأول لجدولة القروض المتعثرة لدى المصارف العامة تلاه مرسومان في عام 2012 للجدولة والتمديد، بالإضافة إلى مرسوم الجدولة الخاص بقروض المشاريع السياحية. وكانت مراسيم الجدولة تقدم التنازل تلو الآخر من زيادة المدة الزمنية، إلى إلغاء الفوائد والغرامات في حال الدفع المباشر، والتعامل بفوائد عقدية سابقة مع تقسيط لفترات تصل 10 سنوات، أما الدفعة الأولى التي تسمى دفعة حسن النية، فقد خفضت من 15%، إلى 5%. ومع ذلك يبدو أن الإقبال على السداد ضعيف ويبدو ان المصارف لن تكون قادرة على التفاوض بعد أن وضعت حوالي 245 مليار ل.س من تسليفاتها تحت رحمة كبار المقترضين.

بالمقابل فإن إعادة الجدولة لم تشمل صغار المقترضين، والموظفين الحكوميين الذين يقدمون بيوتهم ورواتبهم ضمانة لقروض ضرورية لمشاريع العمر، أو خلال الازمة، لمجرد الإنفاق المعيشي..

هروب المستثمرين وآلاتهم

تركيز الحكومات السابقة على الاستثمارات الخارجية باعتبارها المورد « الواقعي» الوحيد في ظروف المتغيرات العالمية، أدى إلى عدم طلب أي ضمانات من هذه الاستثمارات، فسمح لها بتحويل الأرباح والتصدير، وحرية الانتقال. وقدم قانون الاستثمار رقم 10 وتعديلاته الحق بإخراج الآلات وإعادة تصديرها، واضعاً شرطين أخرجتهما الازمة من دائرة المفاوضات مع الاستثمارات الخارجة من سورية. وخلال الأزمة أجازت هيئة الاستثمار لمستثمرين إخراج آلاتهم معلنة ان  هؤلاء هم جزء من مجموعة من الاستثمارات التي «تضطر تحت الضغط» إلى مغادرة البلاد دون الرجوع للهيئةوتسوية أوضاعها. ومن أبرز المشروعات التي حصلت على هذه الموافقات هي مشروع لإنتاج الأقمشة القطنية من الخيوط القطنية المحلية والأجنبية والأقمشة التركيبية والصوفية والصنعية، ومشروع إنتاج أنابيب البولي ايتلين بكل أنواعها وأنابيب البولي بروبيلين المستخدمة في شبكات التدفئة ومياه الشرب والصرف الصحي، ومشروع لنقل المجموعات السياحية، وأخر لنقل البضائع والمواشي والحوايا والمحروقات، ومشروع يتبع لشركة متخصصة بالمقبلات الغذائية

ووفق معلومات من مصر فإن استثمارات السوريين في قطاعات محددة بلغت 500 مليون دولار هي وهي في مجالات الغزل والنسبج والملابس الجاهزة والخيوط والأقمشة، حيث تأسست خلال الفترة 1/1/2012 حتي 31/10/2012 : ‏365 شركة استثمارية من مستثمرين ورجال أعمال سوريين. 

فشل جديد للمنهج الليبرالي

قدم جهاز الدولة في سورية  كل هذه التنازلات بناء على المنهج التبريري لليبراليين الذي يقول بتحييد دور الدولة الاقتصادي ليقوم القطاع الخاص بهذا الدور ويبقي للحكومة دورها الإنفاقي العام والتوجيهي، الممول من موارد النشاط الاقتصادي.

ولم تستطع الحكومات السابقة أن تقدم مزايا موضوعية تحتاجها سورية لتحسين مناخ الاستثمار، بينما استطاعت الحكومة ان تكون سباقة في التخلص من بيروقراطيتها لمصلحة جذب الاستثمار، حتى وصل تجاوز البيروقراطية والتسهيلات إلى تجاوز الدستور. كما في تأجير وبيع أراضي الدولة أو وهبها مجاناً للمستثمرين وهي بحسب الدستور ملك الشعب. ولكن الواقع أثبت ان هذه السياسة تترجم على أرض الواقع باتجاه واحد هو تراجع دور الدولة الانتاجي الاقتصادي، وتراجع إيراداتها أيضاً. فالانزياح نحو أصحاب الربح يؤدي إلى تشوهات في الهيكلية الضريبية وزيادة التهرب، ويؤدي إلى هشاشة الاستثمارات وموارد النمو في لحظة الازمات..وريع النفط كان يغطي كل من هذا وذاك ويسمح بعدم انكشاف التشوه. ولكن اليوم مع تراجع إيرادات النفط وزيادة أعباء الإنفاق المطلوب من جهاز الدولة لا بد أن يتشكل الظرف الموضوعي المناسب لإعادة الموارد المنهوبة بشكل مشرع أو المهدورة عن طريق تشوه هيكل الضرائب، وعن طريق تسهيلات الإقراض غير المدروسة.