إعادة الإعمار.. هل تكون سورية (الاستثناء)؟!
لتجارب إعادة الإعمار اتجاهان عامان، الأول: هو النجاح الذي كان حليف عمليات إعادة إعمار القوى الدولية الكبرى في الاتحاد السوفييتي، وأوروبا، واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. والثاني: هو الفشل الذريع وهو سمة غالبية الدول النامية التي أنهت حروبها بعد التسعينيات وأقربها لبنان، أفغانستان، والعراق..
سورية (الدولة النامية) تخوض حربها على عتبات تغيرات عالمية كبرى.. فهل ستكون استثناءً يخرق القاعدة، لتكون أول دول (العالم النامي) التي تستطيع بناء دولة مستقلة بعد الحرب؟!
يمكن القول بأن تجربة لبنان والعراق وأفغانسنان تشكل النموذج التقليدي، الذي تحولت وفقه عمليات (إعادة الإعمار بعد الحرب)، إلى المشروع الضامن لإنتاج دول فاشلة.
إنتاج الدول الفاشلة.. هدف (الإعمار)!
لم تستطع هذه الدول أن تنتج جهازاً مركزياً تمثيلياً يضع خططاً وطنية وبرامج عامة، ويمتلك القدرة على التحكم بأولويات تنفيذها.. حيث خرجت أجهزة الدولة السابقة من الحروب متهتكة، لتقوم عملية تمويل إعادة البناء على أساس مصالح الممولين وبرامجهم، وتحولت الدولة إلى جهاز إشرافي هش غير قادر على القيام بدوره الخدمي كاملاً، لتحل محله المنظمات والمساعدات، ومنسحب بشكل شبه نهائي من الدور الاقتصادي، الإنتاجي، الذي توزعته قوى المال، وأصبحت بالتالي السياسات الاقتصادية قائمة على توافق المصالح بين قوى المال المتحكمة بالقطاعات الكبرى، بل أصبح التمثيل السياسي والسلطات التنفيذية تمثيلاً مباشراً لهذه التحاصصات، كما في لبنان حتى اليوم.
تحولت 2000 منظمة غير حكومية في أفغانستان إلى الحكومة البديلة، واستجرت أهم الكوادر بعد أن بلغت كلفة موظفيها ومصاريفها 20% من تمويل إعادة الإعمار، وتوسع دورها ليمتد من الأمن الغذائي إلى التعليم والصحة وصولاً إلى تسريح المقاتلين ودمجهم، وبقيت أفغانستان بعد هذا منصة تنتج المال الأسود، وتحديداً المخدرات والمرتزقة..
مركزية البرنامج والتمويل.. سرّ النجاح
أما مشاريع إعادة الإعمار الناجحة في الاتحاد السوفييتي، ومشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا، ورغم تباين اتجاهاتهما إلا أننا نستطيع أن نضع قاسماً مشتركاً، هو وجود هدف سياسي للنجاح، وإدارة مركزية، وبرنامج ترتيب أولويات.
فنجاح مشروع مارشال كان هدفاً سياسياً لمنافسة مشروع البناء السوفييتي، وكانت الأدوات هي البرنامج الواحد، وإدارة التمويل عبر أوروبا مركزية، وهي لجنة التعاون الاقتصادي الأوروبي التي تحولت في 1961 إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الحالية. حيث شاركت الولايات المتحدة في تصميم البرنامج الموحد وتمويله، وأسس مارشال لوحدة أوروبية، ولبناء منظومة دول الرفاه الاجتماعي، على الرغم من تأسيسه لعلاقة غير متكافئة من التحاق أوروبا بالولايات المتحدة تظهر سلبياتها لليوم. أما في الاتحاد السوفييتي فقامت الدولة المركزية بعملية إعادة البناء، وفق برنامجها الوطني، وحولت خلال عشر سنوات الدولة التي خسرت 20 مليون شخص في الحرب، إلى دولة استعادت قدرتها على دخول سباق التسلح مع الولايات المتحدة التي كانت الرابح الأكبر في الحرب الكبرى..
إعمار في عالم متغير..
العنصر النوعي الحاسم إيجاباً لمصلحة سورية، هو اللحظة التاريخية السياسية، فإعادة الإعمار في سورية، كما الحرب السورية، تأتي في ظل تغير في ميزان القوى الدولي، ووضع سياسة إطفاء الحرائق وتأمين الاستقرار، هدفاً للقوى الدولية الصاعدة. أي يتوفر لنجاح سورية واستقرارها بعد الحرب، مظلة سياسية وازنة تسعى لدعم نموذج إعمار ناجح في الدول المضطربة. والأهم أن هذا يأتي في ظل أزمة اقتصادية عالمية عميقة، تحكم تراجع الولايات المتحدة، وتراجع المنظومات المؤسساتية كافة التي اعتبرت ذراع الاستعمار الجديد، والتي يأتي (نموذج إعادة الإعمار الفاشل) جزءاً منها، حيث التمويل مشروط بالسياسات، التي بدورها تمهد لاستمرار الفشل وتحويل الدول إلى منصات لنشر الفوضى في محيطها، فكان العراق على سبيل المثال عتبة إطلاق مشروع (الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط)، وهذا المشروع يشارف على نهاياته اليوم.
وتتبلور مع تغير موازين القوى الدولية سياسياً، بدائل اقتصادية لعزل أثر هذه المنظمات والسياسات وبالتالي تقليص قدرتها على فرض (نموذج الإعمار الأمريكي). والكلام هنا يشمل العديد من المنظمات البديلة، كبنك التنمية الصيني للاستثمار في البنى التحتية، وبنك البريكس. ويتسع التغير لينعكس حتى على رؤى السياسات الاقتصادية الدولية في الغرب، كأن تدعو الأمم المتحدة إلى ضرورة توسيع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وغيرها من الانعكاسات الموضوعية التي يفرضها الوقع العميق للأزمة، ومحاولة تداركها..
أي أن الظرف العالمي داعم للنجاح، فماذا عن الظرف المحلي السوري؟..
بقاء جهاز الدولة .. نقطة قوة سورية
بالمقارنة البسيطة بين النماذج الفاشلة والنماذج الناجحة، تظهر الأهمية الكبرى، لبقاء جهاز الدولة، وعدم انهياره أو فشله، وهنا تكمن، حتى الآن، واحدة من العناصر الإيجابية في الحالة السورية. فجهاز الدولة في سورية ما يزال موجوداً، ورغم إضعاف فاعليته عبر السياسات التي سنشير إلى دورها لاحقاً، إلا أنه ينبغي عدم إغفال أن تجربة الاقتصاد السوري منذ الستينيات، كانت قائمة على جهاز دولة ناشط وفاعل اقتصادياً واجتماعياً، وقد بقيت معالم هذا الدور ماثلة حتى الأزمة السورية، وإن كانت عمليات التراجع السريع في دور الدولة منذ مطلع الألفية الجديدة هي واحدة من أهم أسباب (الصدمة) في المجتمع السوري، ولاحقاً الأزمة..
وعلى الرغم من إشكاليات النموذج السوري كلها القائم على تضخيم جهاز الدولة موارداً وإنفاقاً، والنهب الكبير الذي ترافق مع هذه العملية، إلا أن هذه التجربة تجعل العملية المنظمة الهادفة لإفشال دور الدولة في سورية وإبعاده عن الحياة الاقتصادية نهائياً، عملية صعبة.
وبقاء الدولة ضروري للوصول إلى (المركزية بشكلها الضروري) لمرحلة إعادة الإعمار، أي مركزية البرنامج الوطني وإدارة التمويل، لتتم عملية إدارة الموارد وصياغة المهام، وفق توافق وطني، مبني على تمثيل سياسي واجتماعي واسع، ليتحقق شرطا القوة والمرونة الضروريان لمرحلة انتقال هامة وإعادة إعمار بلاد مدمرة، تجعل إدارة الموارد المحلية للمناطق بشكل فعّال جزءاً من البناء الوطني العام. على العكس مما حصل في التجارب الفاشلة، حين أدى انهيار جهاز الدولة، إلى الوصول إلى حكم مطلق لرؤوس الأموال، وتحاصص غير وطني. وهي نقطة القوة الأولى في سورية.
ليبراليو سورية .. تهديد وطني
يدعم الظرف الدولي نجاح تجربة الإعمار السورية، ويعتبر بقاء الدولة السورية، وتجربتها الاقتصادية عاملاً ذاتياً إيجابياً، وكلا الأمرين يجعل إمكانية تحقيق الخرق، وإنجاح إعادة الإعمار على خلاف دول المنطقة، إمكانية قابلة للتحقيق. إلا أن الخطر ماثل في قدرة (نموذج الإعمار الأمريكي) على إيجاد نقاط استناد تعتمد على تسريع تراجع الدولة وإنهاء قدراتها.. والليبرالية الاقتصادية المستمرة في سورية تتكفل بهذه المهمة، وبتسارع واضح، فالسياسة المطابقة لمصلحة القلة القليلة من رؤوس الأموال المهيمنة على الموارد السورية، منعت ضرورة القيام بعملية تعبئة الموارد من الربح الكبير والفساد، بل استمرت بابتلاع قدرات جهاز الدولة. كما استمرت وتوسعت عملية خروج أموال الفساد والربح من سورية، إلى الخزائن العالمية، إلا أن الفارق اليوم هو أن جزءاً هاماً من هذا الربح، ناجم عن أرباح الفوضى التي يمارسها أمراء الحرب..
منعت الليبرالية الاقتصادية استخدام الاحتياطي النقدي السوري في دعم الإنفاق الحكومي الخدمي، والإنتاجي، بل على العكس أدارت وبوضوح عملية تخفيض الإنفاق، حيث أصبحت مهمات كبرى تدار عبر المنظمات، كالإغاثة، والمياه والإسكان لملايين السوريين النازحين في الداخل والخارج. كما تركت المنتجين لرحمة السوق عندما ألغت دعم المحروقات، وبالمقابل قدمت احتياطي العملات لقلة من المستوردين، ليصبح الغذاء السوري، رهن المحتكرين من جهة، والمساعدات من جهة أخرى!.
والأهم في هذه اللحظة هو نتاج كل هذا على قيمة الليرة السورية، التي يتسارع تدهور قيمتها في العام الحالي أربع أضعاف بداية الأزمة، وفقدان الليرة لقيمتها يعني تلاشٍ سريعٍ للمال العام، وبالتالي تلاشٍ سريع لقدرات الدولة على الإنفاق على منشآت البنى التحتية، والإنتاج الاقتصادي العام، والتعليم والصحة، وحتى على الأجور العامة التي تحولت إلى إعانات رمزية، وهو خطر يهدد بخسارة جهاز الدولة لكوادره وقدراته..
الليبرالية الاقتصادية تهدد بإفشال ممنهج للدولة السورية، وهي من أهم الأخطار على بقاء الدولة اليوم، وهي لم تعد وجهة نظر أو رؤية للنقاش، بل أصبحت تهديداً وطنياً، وهي ترسل لقوى المال الإشارات الواضحة بجاهزيتها للمحاصصة، ابتداءً من التشاركية ووصولاً إلى إتاحة تحويل الإدارة المحلية لشركات تدير مع المستثمرين أراضي الدولة وأملاكها، مروراً بالكثير من التفاصيل..
الظرف الدولي المتغير، وبقاء الدولة السورية، وتجربتها السابقة في الإدارة الاقتصادية، وقدرات السوريين في الداخل والخارج، عوامل تدعم تحقيق سورية لنموذج إعادة إعمار متقدم، لتبقى عقبة الليبراليين خطراً ماثلاً، إلى أن يتاح للسوريين إدخال وزنهم في قرار ومصير البلاد، عبر الحلول السياسية..