إصرّار حكومي على معاملة السوريين كـ«كائنات» تجارب.. افتقار للتخطيط.. وسياسات اقتصادية على مبدأ «يا بتصيب يا بتخيب»

خمسة أشهر على إعلان حكومة سفر، والنتيجة قرارات وتراجعات لم يفهمها أغلب السوريين، فالمواطن السوري ليس أكثر من «كائن» معد للتجارب من أصحاب اللون الأسود، فالحكومات المتلاحقة تستمتع في التجريب به، وعليه، وكأن الاقتصاد هو علم التجارب، والإجراءات والقرارات الاقتصادية بالنسبة لهم، ليست أكثر من تجربة مجهزة للتعديلات، وكأنما لا يمكن فهم تأثيراتها وتبعاتها بدقة على الاقتصاد أو المواطن قبل اتخاذها، وذلك على عكس كل التجارب الاقتصادية الناشئة في العالم التي استطاعت توصيف وتحديد أثر كل إجراء أو قرار على مواطني بلدانهم، فالتخطيط الاقتصادي ليس أكثر من حسابات يمكن التنبؤ بها قبل اتخاذ أي قرار، وبدرجة خطأ لا يتجاوز الـ5%..

«بناء» اقتصادي بردات الفعل

ما يميز الحكومة الحالية منذ استلامها لمهامها، هو اعتمادها مبدأ ردات الفعل انطلاقاً من فعل الحكومة السابقة، وهذا ما جرى تبريره جزئياً عند التعامل مع القرارات السابقة، لأن حكومة العطري قد أجرمت بحق السوريين في أغلب قراراتها الاقتصادية، ولكن أن تصبح هذه الردات نهجاً وخطة تعتمدها الحكومة في كل قراراتها، وهذا يؤشر إلى خللين لا يمكن تجاهلهما، الأول، هو غياب الرؤية والخطة الواضحة لمستقبل الاقتصاد السوري لدى هذه الحكومة، وافتقاد النموذج الاقتصادي المطلوب لسورية المستقبل، والذي يمثل بكينونته خطوة أكثر خطورة من وجود خطة مهما كان نوعها، لأنها تنتج في نهاية المطاف جملة من القرارات غير المنظمة، والتي لا تخدم في محصلة الأمر توجهاً واضحاً..

 

«يا بتصيب يا بتخيب»،

الخلل الآخر، هو انعكاس هذه العقلية المتذبذبة على قراراتها هي ذاتها، فالتراجع عن الخطأ فضيلة، ولكن حسابات نسب الخطأ في أي قرار اقتصادي هي التي تحتم اتخاذه من عدمه، «والشغلة مانا شلفة حجر، يا بتصيب يا بتخيب»، فهناك 23 مليون سوري هم متضررون أو مستفيدون من أي قرار متخذ، وبهذا الشكل لا يمكن بناء اقتصاد متين قادر على مجابهة العقوبات أو الأزمات..

«الجدوى» المفقودة

لدينا من الأمثلة الشيء الكثير، حكومة العطري كانت ماضية في مشروع قانون ثلاث مؤسسات حكومية في مؤسسة واحدة، (مؤسسة الخزن والتسويق، المؤسسة العامة الاستهلاكية، والمؤسسة العامة لتوزيع المنتجات النسيجية)، وهذا ما اعتبر في حينها من الخطوات الجريئة الكبرى لقدرته على ضبط النفقات، وتمت تزكية القرار من مدراء هذه الشركات ورؤساء أقسامها أيضاً، وبات الدمج حلاً سريعاً لدمج المؤسسات الخاسرة والرابحة معاً، ليس بهدف إيصالها لوضع متوازن، بل بغاية تخسير كلتا المؤسستين معاً، ولكن ومع وصول الحكومة الجديدة تغيرت الرياح، فاتخذ قرار مخالف، باعتبار قرار الدمج من كوارث القرارات وأسوئها، وهم ذاتهم مدراء هذه الشركات ورؤساء أقسامها - الذين لم يتغير أحد منهم – شجعوا على هذا القرار، واعتبروه الخطوة التي طال انتظارها، وهنا من حقنا أن نسأل: هل المزاجية هي التي تحكم وتتحكم بأي قرار اقتصادي؟! أم أن دراسة الجدوى التي يفترض وجودها هي المعيار والمقياس لاتخاذ أي قرار اقتصادي؟! ويبدو أن فلسفة «الجدوى» لم تصل بعد لمؤسساتنا، ولا لوزاراتنا، ليس لجهل بأهميتها، وإنما خدمة لفساد هؤلاء المسؤولين القابعين خلف مكاتبهم بعقلياتهم، وجشعهم الباحث عن المنافع الشخصية، التي لم ترَ ولا تريد أن تسمع بالمنفعة العامة مهما علا صوتها..

 

أسرع قرار حكومي

لم تمضِ عشرة أيام فقط على إصدار قرار تعليق المواد المستوردة حتى جاء القرار الحكومي المعاكس بإلغائه، فالبعض يجد بذلك إيحاءً إيجابياً يدل على مرونة حكومية غير معهودة، وهذا جزء من الحقيقة، ولكن ما الذي تخبئه هذه المرونة وراءها؟! أليس ذلك دليلاً قاطعاً على التسرع الحكومي في إصدار القرارات؟! وأليس ذلك إثباتاً دامغاً على أن توازنات القوى السياسية والاقتصادية هي التي تحدد استمرار أي قرار اقتصادي بعيداً عن مدى فائدته للاقتصاد والمواطن السوري معاً، خصوصاً وأن قرار إيقاف الاستيراد لم يكن قراراً حكومياً فقط، بل كان سياسياً أيضاً..

الحكومة بررت عند إصدارها قرار تعليق المواد المستوردة بضرورة توفير القطع الأجنبي الذي تحتاجه سورية، والكثيرون قالوا إنه سيخدم تحسين الإنتاج ودعم المنتج الوطني إذا ما أُحسن استخدامه، هذا المنتج الذي تعرض لمنافسة غير متكافئة في سنوات الانفتاح الماضية مع مختلف المنتجات الأجنبية، دون أن يخفوا مخاوفهم من استغلال القرار من التجار لرفع الأسعار، وهذا تقليد تعارف عليه التجار وأحسنوا استغلاله، وهذا ما حصل فعلاً، الأسعار ارتفعت، ولكن الحكومة تراجعت عن قرارها بإيقاف الاستيراد، ولكن هل سيتراجع التجار عن الارتفاعات التي فرضوها على مبيعاتهم من المواد والسلع، والتي كان بعضها خارج دائرة الإلغاء من الاستيراد؟! وما هو المبرر لبقاء أسعارها مرتفعة؟!

 

خطأ في السياق

هذا ليس القرار الوحيد الذي تتراجع عنه الحكومة الحالية، بل إن السجال حول تصدير الأغنام لم يتوقف، فبعد أن أصدر وزير الاقتصاد والتجارة نضال الشعار قراراً بإيقاف تصدير الأغنام إلى الخارج، كخطوة نحو تخفيض أسعار اللحوم، عادت الحكومة وسمحت بتصدير الأغنام والماعز الجبلي على الرغم من اعتراض الاتحاد العام للفلاحين والزراعة على السماح بتصدير الأغنام، وفي المحصلة انتصر صوت مصدري الأغنام على حساب المنتجين..

التراجع الحكومي الحالي عن القرار يعكس دون أدنى شك أن صوت التجار والمستوردين هو الصوت الأعلى عند اتخاذ أي قرار اقتصادي، ومصالحهم فوق مصالح غالبية السوريين، فالذي أدى للتراجع عن هذين القرارين هو اعتراض التجار، وليس الخوف على المواطن السوري كما تحاول الحكومة التسويف، على الرغم من تضرره الجزئي في محصلة الأمر من تداعيات هذا القرار، فما الذي يمنع من معاملة الشعب السوري كالتجار؟! ولماذا رضخت الحكومة، ومن خلفها إلى احتجاجات التجار على قرار وقف الاستيراد بعد عشرة أيام من اتخاذ القرار، بينما تتجاهل احتجاج ملايين السوريين على جملة من القرارات الاقتصادية التي أضرت بمعيشتهم وبقدرتهم الشرائية وعقدت مشكلات حياتهم؟!..

آخر تعديل على الأربعاء, 03 شباط/فبراير 2016 17:08