عندما تفزع السوق.. القرارات الوطنية الحاسمة... والسوق التي تحكم ولا تُحكم!!

 يمكن بالضبط أن نعرّف السوق السورية بـ«السوق الفزعة»، فخلال العشرة أيام الأخيرة قفزت أسعار بعض المواد الأساسية كالزيوت والسمون بمعدل يصل إلى حوالي %30، واختفت بعض الماركات من السوق منسحبة إلى مستودعات المحتكرين، وصار زيت (أونا) الماركة الذهبية التي اختفت فجأة.

بالرغم من ذلك، أم علي المسكينة ما تزال على عادتها في شراء كل ثلاث بيضات دفعة واحدة، وهذه الدفعة صالحة للفطور، أو لإضافتها مع كيلو ونصف بندورة إلى وجبة (ملوكية) تسمى (جظ مظ).

ومع وصول الرواتب إلى جيوب الجارات هرعن إلى المؤسسة لشراء حصة العائلة من (بونات) السكر لأن مؤسسة الدولة تبيعه بـ60 ليرة بينما في السوق السعر يتراوح بين 70 - 75 ليرة.

 

قرارات حاسمة.. ولكن

الحكومة وفي ظل الاضطراب الذي يسود في الداخل وحجم الضغوطات الخارجية ارتأت في تحليقاتها وحلولها للوقوف في وجه ما يحتمل من انعكاسات على السوق المحلية، والهزات التي قد تتعرض لها الليرة أن تعلق استيراد السلع التي يزيد رسمها الجمركي على %5، وهذا شمل كماً كبيراً من السلع التي يحتاجها الناس، ويمسك بها التجار الذين مارسوا فور صدور القرار، احتجاجاً على طرفين.. على المواطن الذي أمسكوا بحاجته، وعلى الدولة عبر اجتماعات سريعة ولغة متشددة تجاه القرار الذي نعته وزير الاقتصاد بالوطني بامتياز، ومع ذلك كانت لهجة التجار في دمشق وحلب شديدة وحاسمة.

ومن الطبيعي أن يتلقى المواطن أولى الانعكاسات السلبية من قرار الحكومة ومن ردة فعل التجار عليه.

في سوق الأدوات الكهربائية الشهيرة (السويقة)، ارتفعت أسعار التلفزيونات، والرسيفرات، وجميع تجهيزات الصحون اللاقطة.. وازداد سعر كل الأجهزة بين 1000 ليرة للتلفزيونات، و200-300 ليرة لجهاز الرسيفر، وحتى المستعمل حظي بسعر جديد.

 

وزارة الاقتصاد.. ثرثرة مكررة

وزارة الاقتصاد، وهي إحدى شركاء الفريق الاقتصادي والتي دافعت عن القرار ورأت أنه يصب في مصلحة الوطن والمواطن، لم تترك الأمر للتجار واحتكاراتهم، واحتجاجاتهم، فعلى الفور صرح السيد وزير الاقتصاد بما يلي: (إن بعض النفوس الضعيفة في السوق يمكن أن تستغل هذا القرار من خلال رفع الأسعار وبالتالي فإن الوزارة ستعمل بكل الوسائل والأدوات اللازمة للتخفيف من ارتفاع الأسعار وإيقاف هذه الظاهرة إذا ظهرت وعمت السوق على هذه المواد التي علق استيرادها).

يدرك الوزير أخلاق المحتكرين ونواياهم، ولكن ما الذي فعلته الوزارة غير حديث مكرر تردد في كل الأزمات وعلى طول عمر الحكومات المتعاقبة، بينما الأسعار في ارتفاع، والتجار يمارسون أخلاقهم واحتكاراتهم دون خوف أو رقيب.

البيض، كأحد أهم مصادر البروتين للأطفال السوريين، وصل سعره إلى ما بين 210 - 220 ليرة للصحن، وفي المفرق 25 ليرة لكل ثلاث بيضات، وفي الوقت نفسه تصرح الحكومة أن سعره 170 ليرة في مؤسساتها.

مواطنون قالوا (لقاسيون) إن سعر صحن البيض في مؤسسات الدولة 160 ليرة حسب النشرة المعلقة في صدر المؤسسة، ولكن لا يوجد بيض، وأما السكر فسعره أيضاً في المؤسسة 55 ليرة، ولكن حسب موظفها أن الدفعة ستأتي في صباح اليوم التالي، وعند مراجعته قال إنها في الطريق.. لكنها لم تصل.

في محل الجملة حيث يجد المواطن ضالته بسعر أقل من سعر المحال العادية، اختفت أنواع وظهرت أخرى كاسدة، وهذا هو حال الزيوت النباتية التي يستهلكها المواطنون في مطابخهم بكميات كبيرة، وهنا تناسى الجميع ما لها من أضرار يمكن أن تؤثر على صحتهم.

اختفت (الأونا) و (بروتينا).. قالت أم أحمد إنها وجدت في محل الجملة عبوة واحدة بـ105 ليرات، وأمام أعينها باع تاجر الجملة صندوقاً كاملاً لأحد أصحاب المحلات.. وهذا توزيع الاحتكارات بين المحتكرين، لكل حصته.

العبوة ذات الحجم الأكبر 4 لترات زادت أكثر من ثلاثين ليرة حتى في مؤسسات الدولة، فكل 4 لتر بروتينا بين 435 - 450، وذلك حسب رغبة البائع، وهواه، والرقابة التي هدد وزير الاقتصاد بفرضها ومحاسبة المحتكرين.

الأنواع الأقل جودة والتي كانت على الرف ظهرت على مبدأ (أحسن من بلاها)، فعلى سبيل المثال زيوت من (ل.ل) بسعر 415 ليرة سورية للأربعة لترات.

 

التجار.. دور فاصل

وزير الاقتصاد أشار إلى التجار برفق، وطلب منهم بشفافية أن يكونوا مواطنين، فهم على رأيه مواطنون أولاً... وفي الوقت نفسه هدد بخفاء أنه لن يتم السكوت على محتكر.

يقول السيد الوزير:  (طلبنا من التجار والصناعيين أن يأخذوا مصلحة المواطن بعين الاعتبار لأن التاجر والصناعي بداية ونهاية هو مواطن، فإذا كان سعيداً برفع الأسعار لفترة مؤقتة فإن ذلك سينعكس عليه سلباً في المستقبل، ونتمنى ألا يحدث هذا الأمر، وإنني على استعداد شخصياً لإقفال أي محل يمارس أي عملية ظلم غير مبرر على المستهلك).

ولكن كيف رد التجار على ذلك الكلام غير الاحتشاد والاعتراض.. المرتديلا حشوة سندويشات الأطفال إلى مدارسهم قفزت على رفوف المحال التجارية التي تلقي باللوم على الموزعين الذين يتهمون الشركة والشركة هي المعمل.

مرتديلا «هنا» زادت خمس ليرات على كل العبوات، بينما المستوردة المذعورة من أن لا تعود فوصلت إلى 150 ليرة (زوان) على سبيل المثال.

سمنة ممتاز قفزت من 85 - 120 ليرة بزيادة 35 ليرة، وهي من الأنواع التي لا تحمل اسماً كبيراً في السوق مثل أصيل مثلاً.

التجار الذين لا يكثرون من الأحاديث ويفعلون ما يدور في عقولهم المفصصة على الدولار واليورو وأحياناً الليرة لم يتركوا فقط احتجاجهم بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك.. تصرفوا بأخلاقهم المعهودة وأدخلوا المواطن في نفق البحث عن كميات يحتاط بها لارتفاعات قادمة.

 

هراء الاستثناء

بعض المواطنين الذين استغلوا بعض الظروف «المؤاتية» فانتهزوا الأزمة التي تمر بها البلاد، وفعلوا ما حرمتهم منه قوانين ضابطة البناء وفساد الوحدات الإدارية، وبنوا ما شاؤوا من غرف لأبنائهم، وشاركهم في ذلك  تجار البناء الذين استفادوا من فوضى القوانين ومن أزمات البلاد.. هؤلاء المواطنون وما يستخدمون استثنوا من قرار تعليق المستوردات ومع ذلك طاش حجر مواد البناء، فالاسمنت والحديد والبلوك زادت بأرقام مخيفة:

الاسمنت زاد بين 1000 - 1500 فبلغ سعر الطن  7500 - 9000 ليرة، أما الحديد فزاد برقم خيالي فاق 16000ليرة فبلغ سعر الطن بين 42 - 43 ألف ليرة، وكان قبل القرار بـ 27000 ليرة.

والسؤال الذي يجيب عنه مواطن عادي لماذا هذا الاستثناء في الوقت الذي تصر الحكومة على تأمين أساسيات المواطن العادي وتستثني أدوات التاجر، يقول المواطن العادي يد التاجر حتى في القرارات الوطنية واضحة.. مدلل وقوي.

وزير الاقتصاد يقول في معرض تصريحه: ( المواد الغذائية والحاجات الأساسية للمواطن والمواد الطبية سواء كانت صحية أو أدوية والمواد التي تدخل في عمليات البناء والتي يمكن اعتبارها مواد أولية أو مستلزمات إنتاج قمنا باستثنائها من القرار).

المواد الغذائية المحلية من ألبان وأجبان ارتفعت هي أيضاً، فزادت بين 10 - 20 ليرة على الحليب واللبن المصفى والجبنة بأنواعها، ناهيك عن المعلبات والزبدة وغيرها من المواد الغذائية المعلبة و«الفرط».

ويعزو البعض ذلك إلى أنه موسم (غرز) المواشي أي أن إنتاجها يقل، وهذا أمر اعتيادي ودوري، ولكن يبقى السؤال: هل عادت سلعة إلى سعرها بعد انتهاء أزمتها طوال تاريخ سورية القريب؟.

 

المواسم المتعثرة

على طريق «سنتر الشام»، يفرش المواطنون المعتاشون على بسطات الفواكه بضائعهم، قبل أول الشهر سعر كيلو العنب 20 - 25 ليرة، وفي أول الشهر يقفز إلى 35 ليرة، وهذا من باب مزاج البائع، وأما العنب الجيد فيصل إلى 60 ليرة سورية.

أما الخضراوات التي في قلب سلة المستهلك اليومي، فارتفعت هي أيضاً، فالبطاطا بات الكيلو غرام الواحد منها بـ30 ليرة سورية، والباذنجان سيد موسم المونة فوصل في عشرة أيام إلى 30 ليرة في عز موسمه. الخضراوات التي تدخل في وجبات دسمة ومعتبرة أسعارها (نار) كما يقول الحانوتي أبو سليمان، فالفاصولياء الحب بـ125 ليرة، والخضراء 70 ليرة، والعريضة 125، واللوبيا بين 85 - 95 ليرة، البامياء  125 ليرة.. وهكذا دواليك..

وعلى سيرة الباذنجان/ مونة الشتاء، والذي يسمى بعد صناعته (المكدوس)، ستكون هذا عام ارتفاعاته القصوى على الغالب، ولن تستطيع أسرة عادية من ذوات الدخل المحدود ارتكاب فعل (المكدوس) ما لم تكن قادرة على ضغط نفقاتها بشدة، مع أن هذه «الأكلة» وجبة الشعب الصباحية.

فلنعدد معاً ما يدخل في صناعة المكدوس لنتبين السبب: فالجوز البلدي سعر الكغ  الواحد منه 800 ليرة سورية، أي بزيادة 200 ليرة، وأما الإيراني فسعره 550 ليرة، والأوكراني 600 - 650 ليرة.

الثوم، وهو إنتاج محلي لكنه دخل سريعاً في الغلاء، فحسب حجم (السن) بين 125 - 150 ليرة سورية، والفليفلة الحمراء سعر الكغ 30 - 35 ليرة سورية.

 

مفاجأة

القرار الحكومي لم يصمد سوى خمسة عشر يوماً فقط لا غير، وقد تحمل في فترة حياته القصيرة جداً من المديح والإطراء حدود الخيال، ووصف كما العادة بالوطني والذي يصب في مصلحة الوطن والمواطن.. لكن الحكومة قررت إلغاءه دون مقدمات.

بالطبع كما يقول السوريون عامة.. متخصصون وصحفيون.. معارضة وموالاة.. يفهمون لعبة الاقتصاد أم لا... التجار فعلوها.

وبالطبع.. من الطبيعي  أن ينعكس إلغاء قرار الحكومة على السوق، وعلى المواطن والتاجر، وأن تسقط في الوقت نفسه كل عبارات المديح للقرار الملغى.

بالطبع.. وكلنا متأكدون أن الأسعار لن تنخفض، فهي لم تفعلها في السابق ولن تفعلها الآن ولاحقاً طالما النواظم والإدارات والمنهجيات هي نفسها.. التاجر المحتكر سيكون مواطناً أيضاً، لكنه لن يسقط احتكاره من فلسفته طواعية أبداً، ومصلحة المواطن الوحيدة في أن يجد ما يأكل على قدر ما في الجيب وليس بحجم القرارات الارتجالية ومدائحها.

يعتقد أغلب من سمعوا بقرار الإلغاء أن التجار فعلوها، نعم!! استطاعوا أن يبطلوا القرار الحكومي، وأن كل مبررات الحكومة في إصداره لم تصمد أمام اجتماعات قليلة لغرف التجارة..أما المواطن فعلى حاله بين التاجر والحكومة وقراراتها... هو في محور اهتمام الحكومة كذريعة، واهتمام التاجر كزبون مكشوف.