ملف إعادة إعمار سورية (11) التجربة اللبنانية: الاقتصاد السياسي لفساد ديمقراطية المكوّنات!

ملف إعادة إعمار سورية (11) التجربة اللبنانية: الاقتصاد السياسي لفساد ديمقراطية المكوّنات!

لقد أوضحنا في الحلقة السابقة في العدد (730) أن تجربة إعادة الإعمار اللبنانية عانت من قصور جدي في الرؤية ناتج عن التزام واضعيها بمصالح فئات اجتماعية محددة، من المستثمرين في القطاعات المصرفية والتجارة والخدمات العامة والعقارات، وعلى ذلك افترضت الخطة استقراراً أمنياً في المنطقة التي شهدت العديد من التوترات الأمنية والعسكرية، فاعتمدت بشكل كبير على الاستثمار الأجنبي والتمويل الخارجي والقطاع الخاص عبر عقود الـ (BOT)، وأهملت دور الدولة.

كما افترضت الخطة أن النمو الاقتصادي المرتفع نسبياً، والذي تأمن حكماً نتيجة إعادة إعمار ما دُمّر، كفيل باعطاء نتائج اجتماعية، وتحقيق نمو حقيقي طويل الأجل، وحل المشاكل الاجتماعية الأخرى الناتجة عن الحرب وما تلاها وماسبقها. وهذه الإشكالات في الرؤية كان قد صاغها الباحث اللبناني المعروف الدكتور جورج قرم(1)، والتي استعرضنا اثنين منها في الحلقة الماضية، وسنكمل اليوم بالتحفظ الثالث المتمثل بـ (مشكلة تأمين التوازن المالي في السياسة الإعمارية)(2)، كما سنعرج على دور الفساد والقوى الاقتصادية من أصحاب الرساميل والمستثمرين والسلطة السياسية الحاكمة في تكريس نموذجٍ «إعماريٍّ» محدد يتوافق مع مصلحتها خلافاً لمصحلة الشعب اللبناني. 

التمويل الخارجي..!

وحول فكرة تأمين التوازن المالي في خطة إعادة إعمار لبنان، أي تأمين التمويل الكافي والمستمر دون خلق مشاكل مالية ونقدية في موازنة الحكومة أو الدين العام أو تدهور قيمة الليرة اللبنانية، فقد كان من الواضح أن هذه العملية شابها مشاكل جمة، وتحديداً بسبب قيام الحكومة بتسهيلات للرساميل وتخفيض الضرائب عليها ما يعني تقليص إيراداتها المالية، والاعتماد الكبير على التمويل الخارجي لخطط إعادة الإعمار، ونتج عن ذلك مشاكل التضخم، أي ارتفاع الأسعار المستمر، في لبنان. وينتقد جورج قرم(3) السياسة المالية تلك بالقول: (تبدو لي المعادلة المالية شبه مستحيلة لتأمين مسار إعماري دون عقبات نقدية ومالية، ولا يمكن تفسير هذه المعادلة إلا اذا عدنا إلى التصور الأساسي الذي تستند إليه الخيارات الإعمارية، أي حصول «سلام» سريع وعودة الرساميل اللبنانية الهاربة خلال الحرب وقدوم رساميل عربية ودولية ضخمة للاستثمار). 

لقد بلغ إجمالي التمويل الخارجي للخطط الاستثمارية حتى عام 2009، حوالي 9,6 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 27% من الناتج الإجمالي اللبناني في ذلك العام. وإن أغلب هذه الأموال كانت قروضاً تستوجب السداد، وهي حوالي (6,8) مليار دولار، والباقي على شكل هبات، ويعود 90% من هذه الأموال لـ13 جهة أجنبية أبرزها: البنك الدولي، صندوق النقد العربي، البنك الأوروبي، الكويت، السعودية، والاتحاد الأوروبي(4).

الدولرة والتضخم

يضاف إلى مشكلة اعتماد الخطة على التمويل الخارجي من جهات أجنبية وقوع لبنان في مشكلة التضخم الناتجة عن مشكلتين وهما (الدولرة) و(الدين الداخلي). وبالنسبة للدولرة والتي تعني اعتماد الدولار كعملة رئيسة إلى جانب الليرة اللبنانية، ما أدى إلى مزيد من تدهور الليرة يقول قرم(5) إن: (المراقب الاقتصادي الموضوعي يقف حائراً أمام سياسة مساندة العملة الأجنبية ضد العملة المحلية في أوضاع مثل الأوضاع اللبنانية، حيث مصدر التضخم الأهم هو زيادة سعر السلع المستوردة).

أما بما يخص ارتفاع الدين العام الداخلي الناتج عن تراكم عجز الموازنة في سني الحرب، والذي عده قرم ثاني أبرز أسباب التضخم، والذي زاد رغم عدم زيادة النفقات الإعمارية والمشتريات الخارجية للدولة، بما يبرر هذا التصاعد، فإنه لم تتم معالجته جدياً، حيث كان يستدعي عدة إجراءات أبرزها الإسراع في توسيع المصادر الضريبية للحكومة وهو ما كان بطيئاً(6).

بالاختصار لقد كانت الخطة المبنية على الاتجاه النيوليبرالي معاكسة لضرورة زيادة الإنتاج الحقيقي في لبنان ما يحسن الموارد الداخلية للحكومة، ومن مصادر دخل حقيقية وليست تضخمية كما حدث، فأدى تمويل الخطة لخلق مشاكل في مختلف الاتجاهات.

أملاك الدولة.. الحلقة الأضعف!

يسهل تفسير ما حصل في تلك التجربة فيما لو نظرنا إلى ماتم العمل عليه في اقتصاد لبنان ليُقدم على أنه تحفة إعادة الإعمار في المنطقة، فمع ضرب المرتكزات الرئيسية للنمو الحقيقي في الدولة، وتأمين مصادر تمويل خارجية تستهدف نمطاً اقتصادياً محدداً، أي النيوليبرالية، بات لبنان مرتعاً للشركات العقارية والتي تشكلت نواتها الرئيسية من مصدرين الأول هو التمويل الخارجي والثاني من نهب المال العام بحجة ضرورات التمويل اللاحقة، فعمدت الحكومة بداية إلى تأجير أملاكها لتأمين التمويل لخطط الاستثمار، ويبين الباحث محمد إبراهيم شمس الدين هذه الفكرة بالقول: (بعد أن نهب المال العام في مشاريع إعادة الإعمار عمدت الحكومة إلى مقايضة وبيع وتأجير أراضي الدولة)، ويضيف شمس الدين أنه (في موازنة عام 1995 قدرت إيرادات بيع أملاك الدولة بـ 25 مليار ليرة، وبعد إنجاز قطع الحساب تبين أن المبلغ المحصل هو 293 مليون ليرة، وتبين بعد إحصاء مراسيم بيع أراضي الدولة في العام المذكور أن المبلغ هو 1031 مليون ليرة، فأين ذهب الفرق البالغ 738 مليون ليرة؟)(7)!.  

جدلية دولة (الطائف) والفساد!

يربط الدكتور جورج قرم بين التركيبة الاجتماعية لاتفاق الطائف، الذي يوصف بأنه (تحالف بين رجال أعمال اغتنوا بسهولة في ظروف ريع النفط في الخليج، وبين جماعة الميلشيات الذين اغتنوا من عمليات الحرب)، وبين الحكومة اللاحقة المشرفة على إعادة الإعمار، التي (تكونت من رجال أعمال لهم مصالح في حقل المقاولات إما مباشرة أو عن طريق تمثيل الشركات) وفق وصف قرم(8)، والتي لا شك كانت مصالحها متوافقة إلى حد بعيد مع الاتجاه النيوليبرالي السائد دولياً وعلى ذلك سهلت عليها الأمور في لبنان. 

ويتقاطع الدكتور قرم في هذه النتيجة مع الباحث محمد ابراهيم شمس الدين، والذي يؤكد أن: (المسؤولون تقاسموا الدولة، بتوظيفات وإمتيازات، فعمدوا إلى بدعة إنشاء الشركات العقارية للسيطرة على الأملاك العامة والخاصة بحجة تطويرها وتحسينها) (9)، ويعطي الباحث نموذجاً فاقعاً على هذه الحالة، هو شركة سوليدير، المملوكة لرئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، حيث سُن لها القانون رقم 117 عام 1991، وبذريعة إعادة إعمار الوسط التجاري لبيروت، وتعدد الملكيات انتزعت ملكية المواطنين، «المقدسة وفق الدستور اللبناني»، لمصلحة أفراد وشركة خاصة، حيث عوض أولئك المواطنون بسعر 1500 دولار للمتر، ثم باعت سوليدير المتر بـ 2500 دولار وقبل أي عملية إنشائية، وبعد ثماني سنوات انهار سعر المتر إلى 8 دولار(10)! 

لقد أسهم اتفاق الطائف في عام 1990، الذي رسم ملامح وقف الحرب في لبنان، بإنشاء البنية السياسية الملائمة لهذا الفساد ولهذا النموذج الإعماري، ووفقاً لتقرير (الاقتصاد السياسي للفساد في مرحلة ما بعد الحرب في لبنان) فقد أضفى الاتفاق طابعاً مؤسسياً على الطبيعة الطائفية للدولة اللبنانية، حيث كانت مرحلة ما بعد الحرب مرحلة دمج أمراء الحرب كونهم أصحاب السلطة الحقيقيين، وتم تشكيل حكومات «وحدة وطنية» مثلت دور سماسرة السلطة عملياً، وكثف النظام السياسي اللبناني لاحقا بالترويكا (الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان)، حيث عملت هذه الترويكا على مبدأ تقسيم الغنائم والامتيازات من موراد الدولة، وتعززت هذه الترويكا بعد انتخابات عام 1992 التي أفضت إلى برلمان يمثل تحالف أمراء الحرب مع رجال الأعمال، وأصبح الإجماع الوطني على هذه الترويكا أساس السلام والاستقرار، وأخذ أطراف الترويكا يوسعون نفوذهم عبر سياسات التوظيف العام وإغداق النفقات على توسيع نفوذهم في صفوف مواليهم، فأصبح الفساد جزءاً من هذه التكوينة لمنع انتصار طرف على طرف، وبالتالي صار استمرار الفساد والحفاظ عليه ركناً من أركان استقرار ذلك النظام(11).

من نتائج التجربة:

 السدس نُفذ فقط!

في عام 1992 كان الدين العام اللبناني 1,7 مليار دولار، وبعد نهاية حكومة الحريري في عام 1998 بلغ 21 مليار دولار، ومع ذلك لم تنعكس هذه الأموال على تحسين حال الشعب اللبناني وبناء اقتصاد قوي منتج يحميه من سطوة المال السياسي الخارجي أو الداخلي. كما أن هذه الأموال الضخمة لم تنعكس حتى على تنفيذ الخطط الاستثمارية المعدة لمشاريع إعادة الإعمار، ويوضح الجدول(12) ما تم تنفيذه من الخطط الاستثمارية العامة في لبنان منذ عام 1992، ويبين ما أقر منها وما نفذ.

يتبين من الجدول أدناه أن نصف البرامج التي جرى إعدادها قد عرضت على مجلس الوزراء، وأن ثلثها قد أقر، وأن سدسها قد جرى تنفيذه فقط!

خلاصة:

لقد شلكت عملية إعادة الإعمار اللبنانية نموذجاً لتوافق النيوليبرالية الصاعدة دولياً في تلك الفترة مع بنية النظام الاقتصادي – السياسي في لبنان، حيث سمحت تلك السياسيات  بغسل أموال أمراء الحرب، من فاسيدن سابقين وأثرياء جدد تكونوا خلال الحرب، باستثمارات تؤمن الربح السريع في قطاعات غير تنموية، شاركتها فيها قوى اقتصادية إقليمية ودولية، حولت الاقتصاد اللبناني لأحد أبرز بؤر غسيل الأموال في العالم. 

كما أن النظام السياسي اللبناني الذي اعتمد «ديمقراطية المكونات الطائفية» شكل مظلة هامة لحماية تلك الأموال وشرعنتها وتنميتها، فتحول هذا النظام لاحقاً من متمول من الفساد إلى منتج وممول له، في حلقة مفرغة يتم فيها تنمية أرباح الطبقة الحاكمة في لبنان على حساب الشعب المنهوب، الذي انتفض مؤخراً على أبسط حقوقه وهي التخلص من نفاياته التي ترفض حكومته التخلص منها بحجج واهية ومستفزة! 

هوامش:

الإعمار والمصلحة العامة جورج قرم، دار الجديد، 1996.

الإعمار والمصلحة العامة، ص86.

الإعمار والمصلحة العامة ص 93.

ورقة عمل مقدمة من رئيس مجلس الإنماء والإعمار المهندس نبيل الجسر،ص18.

الإعمار والمصلحة العامة ص61.

الإعمار والمصلحة العامة ص 62.

مغارة الإعمار بالحقائق والأرقام، محمد ابراهيم شمس الدين بيروت 1999، ص94-97-98.

الإعمار والمصلحة العامة ص118.

مغارة الإعمار بالحقائق والأرقام ص 100.

تقرير (الاقتصاد السياسي للفساد فترة ما بعد الحرب في لبنان) صادر عن مؤسسة الشفافية اللبنانية، ص 16-17-18.

الجدول مأخوذ من ورقة عمل المهندس نبيل الجسر ص7.

آخر تعديل على الأحد, 28 شباط/فبراير 2016 01:16