الثلاثاء الاقتصادي «يطوق» المخرجات المالية للخطة العاشرة حضرت «السوق» وغاب «المجتمع».. فازدادت الفوارق!
استطاع الباحث الاقتصادي د. مدين الضابط بحماسة عالية توضيح عدد من نقاط الخلل الهيكلية في البنية المالية للاقتصاد السوري، وفي سياق محاضرة ألقاها الثلاثاء الماضي ضمن سلسلة محاضرات جمعية العلوم الاقتصادية السورية بعنوان «السياسات المالية من منظور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمصلحة الوطنية»، أشار د. الضابط إلى أن السياسة المالية لم ترتق بأهدافها المتعددة إلى ما كان مقترحاً ضمن الخطة الخمسية العاشرة، مشدداً على أنها لم تدعم بشكل فاعل نظام اقتصاد السوق الاجتماعي والسياسات الاقتصادية الكلية المخططة بقدر ما دعمت عمليات التحرير على حساب الكفاءة والعدالة في التوزيع.
وكذلك أشار د. الضابط إلى أن ما سمي بتطبيق نظام اقتصاد السوق الاجتماعي خلال الخطة العاشرة كان مشوباً بالعديد من ملامح القصور التي دفعت العديدين إلى التساؤل حول الشق «الاجتماعي» من هذا النظام، موضحاً أنه لم يتم خلال الخطة تحقيق الكفاءة الاقتصادية التي تعني الاستغلال الأمثل للموارد من خلال حركة حرة للأسواق، وكذلك لم تشهد السنوات الماضية إدارة فاعلة لرأس المال، فالبطالة لاتزال قائمة، ومتوسط الأجر ما يزال دون المطلوب، في حين امتلأت المصارف العامة والخاصة بسيولة فائضة تنتظر من يستثمرها.
وأضاف د. الضابط لافتاً إلى أن تخفيض العبء الضريبي عن أصحاب الدخول والثروات هو تخفيض غير عادل للدعم، كما أنه تزامن مع تخفيض الإنفاق العام بدلاً من ترشيده في محاولة لتنمية رأس المال الخاص على حساب توزيع الدخول والثروات بشكل عادل على حساب محددات العدالة والرفاه الاجتماعي، وهذا كله حسب رأيه جعل من تطبيق الشق «الاجتماعي» على نحو فاعل مثار جدل وتساؤل، أما الشق الخاص بـ«السوق» فرأى د. الضابط أنه سار بخطا سريعة إلى حد بعيد ولكنه أيضاً كان مشوباً بالأخطاء الكثيرة.
وأضاف المحاضر أن التوزيع غير العادل للدخل ينطلق أساساً من افتقار النظام الضريبي للعدالة الضريبية، الأمر الذي يعني أن التصحيح الهيكلي- لاسيما عجز الموازنة- يجب أن ينطلق أساساً من معرفة معمقة للقدرة الفعلية لكل أداة من الأدوات الاقتصادية والمالية على توليد الموارد ومن ثم إعادة توزيعها بالشكل الأمثل دون المس بثوابت الأمن الاجتماعي المفترض. ودعا د. الضابط إلى إعادة النظر بسياسة التحرير الاقتصادي واستبدال المدخل التنموي القائم والمعتمد على قطاع المال والقطاعات الخدمية، بمدخل تنموي يعتمد على قطاع الصناعة وخاصة الصناعة التحويلية والبنية التحتية وتوجيه الاستثمارات نحو هذا المنحى، لافتاً إلى ضرورة إيلاء الأهمية للإدارة الفاعلة للموارد الاقتصادية لاسيما على مستوى المالية العامة من خلال الحد من التهرب الضريبي، مشيراً إلى أن التعديلات التي أجريت على النظام الضريبي خلال السنوات الماضية لم تكن مدروسةً ولم تحدث التغيير المطلوب مما أبقى النظام الضريبي بعيداً نسبياً عن عملية التنمية.
وتناول د. الضابط في محاضرته كذلك سياسة الإنفاق العام مشيراً إلى أن الخطى الحثيثة التي تنتهجها الدولة لتقليص حجم الموازنة العامة في ظل تراجع الإيرادات النفطية لم تترافق مع تعويض ملحوظ في جانب الإيرادات غير النفطية، وهو ما بدأت ملامحه تظهر بتراجع في مستوى الخدمات وفي الدور الإنمائي للموازنة، وبين الباحث أن المشكلة الحقيقية في سياسة الإنفاق هي السيطرة عليه مبدئياً من خلال مدخل تخفيض الإنفاق بشكل عام والدعم بشكل خاص، وأن التغلب على مشكلة تراجع الإيرادات النفطية يكون بتفعيل الموارد وترشيد الإنفاق بالحد من الهدر والفساد، وهما الأمران اللذان سيؤديان لا محالة إلى التغلب على مشكلة تراجع الإيرادات النفطية ويساهمان في تقوية دور الدولة الإنمائية في المستقبل القريب والمتوسط.
يشار إلى أن الباحث لم يتطرق لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين بشكل مباشر وإنما عرض للخطط الوطنية من منظور فلسفة هاتين الجهتين العالميتين، حيث رأى أنه لابد من إعادة تقييم للفلسفة الاقتصادية والاجتماعية التي تستند إليها الخطط الحكومية والسياسات الاقتصادية والمالية حالياً في ضوء ما تحمل البيئة الاقتصادية والاجتماعية السورية من المورثات الصناعية والزراعية ورساميل وادخارات موجودة، سواء في الداخل أو الخارج ومكتسبات اجتماعية حفظت الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي طوال أربعة عقود مضت، داعياً إلى إعادة النظر بسياسة التحرير الاقتصادي المنتهجة في إطار مجموعة من الشروط والقيود.