تثبيت سعر الصرف لم يحْمِ القدرة الشرائية لليرة السورية!
يلاحظ دائماً أن أصحاب العلاقة المباشرة بالحدث الاقتصادي، أي أصحاب المسؤولية الرسميين هم الأكثر بعداً عن الموضوعية، فعلى الرغم من ندرة اطلالاتهم الإعلامية، وانتظارنا الحار لمبررات سياساتهم المتبعة، نصاب بالصدمة من مستوى تسطحيهم للحدث الاقتصادي، واستخفافهم بمداركنا، كما يحصل اليوم فيما يخص الليرة السورية التي تتآكل قيمتها بسبب التضخم والسياسات المرتجلة ، ويظهر حاكم المصرف المركزي، صاحب العلاقة، فلا يضيف أية إضافة، مكتفياً بالقول إننا أبلينا بلاء حسناً، و «الليرة بخير».
..وبغية تسليط المزيد من الضوء على جوهر المشكلة ارتأينا إجراء حوارات مع أصحاب الاختصاص فكان هذا الحوار مع الصحفي والخبير في شؤون النقد الأستاذ عامر الياس شهدا الذي تناول الموضوع من جوانبه المختلفة.
للمصرف المركزي هدف معلن، هو تحقيق استقرار أسعار السلع، ولم ينجح بتحقيقه.
ما السياسة المتبعة، لتحقيق هذا الهدف، ولماذا لم تجد؟!
انطلق الاستاذ شهدا من نقطة محورية، تقول بغياب التناغم ما بين السياسة النقدية، والسياسات الاقتصادية.
«الموضوع لا يتربط بالأزمة الحالية فقط، وإنما هناك خلل في الأداء الاقتصادي من الحكومات السابقة، وسياسة النائب الدردري تحديداً، هذا الخلل قائم على غياب التناغم ما بين السياسات الاقتصادية والنقدية، وظهر مع بداية الأزمة الحالية نوع من الجلبة، دلت على عدم وجود سيناريوهات للحل، أشارت منذ البداية إلى ضعف قدرة البنك المركزي على مواجهة الحدث»
أما عن السياسات المتبعة، فيجملها لنا بالسياسات القائمة على ضخ الدولار في السوق السورية بمراحل وأشكال متباينة:
«تم بالبداية السماح ببيع عشرة آلاف دولار، لكل مواطن كحد أقصى، ومع إلغائها، أقر الرفع إلى 120 ألف دولار، مع إجراءات «وقائية»، ولاحقاً تم وقف تمويل المستوردات، مما ترتب عليه ارتفاع كلف المنتجين »
« أما الخطوة اللاحقة فكانت بيع الدولار بالمزاد العلني، وهي خطيئة، حيث تم بيع 74 مليون دولار بسعر أقل من سعر السوق السوداء، وبحجة توفير الدولار للسوق، بعد إيقاف تمويل المستوردات».
وتحدث الاستاذ شهدا عن دور المؤسسات المالية المختلفة، مثل شركات الصرافة والبنوك الخاصة قائلا : « نتيجة عدم قدرة المركزي على مراقبة المؤسسات المالية، فإن هذه المؤسسات التي اشترت هذه المبالغ الضخمة من الدولارات، أصبحت توزع على باقي المؤسسات، وعلى السوق السوداء، بربح متزايد، فالسعر أصبح يتحدد في هذه السوق، وأدى ضعف الرقابة والضبط، إلى أسعار متفاوتة تتغير بين ساعة وأخرى..»
ويضيف قائلاً» عند حد معين ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء إلى 105، وبقي تسعير التجار تحديداً للمواد الاستهلاكية على هذا السعر المرتفع، على الرغم من تدخل المركزي المتكرر وتثبيته للسعر في نشراته إلا أن تسعير السلع لم يتغير..»
تثبيت سعر الصرف لا يعني تثبيت قيمة الليرة، والبنك يمارس ما يمكن تسميته «الاقتصاد التخيلي»
« إن إعلان حاكم مصرف سورية المركزي عن تمكنه من تثبيت سعر الصرف لم يكن له أثر على الواقع المعيشي للمواطن، على اعتبار أن ارتفاع الأسعار لم يعد لما كان عليه، مما أدى إلى الخلل في القوة الشرائية لليرة السورية، وبالتالي انخفاض القدرة الشرائية للمواطن بنسبة تجاوزت 30%. وبهذا الشكل يكون المصرف المركزي ثبت سعر الدولار لكن على حساب المستوى المعيشي للمواطن!! «
« إذا ما كان الهدف تثبيت سعر الصرف دون النظر إلى أثر الإجراءات المتبعة، فإن البنك يمارس ما يمكن أن نسميه «الاقتصاد التخيلي»، أي سياسة نقدية ينفذها لتحقق أهداف البنك الموضوعة بمعزل عن ارتباطها الاقتصادي». وبناء عليه يرى الاستاذ عامر أنه لابد من فريق أزمة: «لا بد من فريق لإدارة الأزمة مهمته خلق التناغم بين المصرف المركزي والوزارات المعنية بالاقتصاد السوري، وحماية النقد السوري حيث يتم المحافظة على القوة الشرائية لليرة».
ارتفاع أسعار السلع، والحالة التضخمية، سمة مرافقة للاقتصاد السوري، منذ عام 2003 تقريباً، أي لا ترتبط بالأزمة فقط، فلا بد أن السبب أبعد من سياسات البنك المركزي الحالية!!
يرى الاستاذ عامر شهدا أن السياسات الحكومية السابقة، والتي استمرت كنهج في ظل الأزمة تكمن في قلب مشكلة ارتفاع الأسعار.
حيث كانت الحكومات تتبع المنطق نفسه الذي يتبعه البنك المركزي، من حيث وضع أهداف شكلية، من نوع زيادة الاحتياطي كرقم، زيادة الموارد الرقمية، حتى لو كانت مسحوبة من الإنفاق الحكومي بشقيه الاستثماري والاستهلاكي..
« كانت الحكومة تضخم ميزانية الإنفاق دون تأمين موارد، ومن ثم تسعى إلى تغطية فرق الموارد بزيادتها بأية طريقة، فتتخذ إجراءات وقرارات، أدت وتؤدي إلى زيادة التكلفة لتغطية الموارد». والأمثلة على سياسة زيادة التكلفة، كثيرة أبرزها سياسة رفع الدعم، أي السحب من الإنفاق الحكومي، على الإنتاج وعلى دعم معيشة المواطنين، لتغطية موارد الدولة المطلوبة لميزانيات إنفاق رقمية كبيرة، وهو ما أدى إلى زيادة الكلف الإنتاجية، وتراجع الدخل الحقيقي للمواطن، وقلل من القدرة الشرائية وبالتالي قيمة الليرة.
« وجود الدعم للمواد الأساسية في سورية له أثر كبير على سعر الصرف أكثر من السياسة النقدية، وكان أجدى بالحكومات أن توقف استنزاف الموارد المسروقة للحصول على الموارد، عوضاً عن السحب من الدخل الحقيقي للمواطنين، ومن الدعم الإنتاجي»
«السياسات الاقتصادية من حكومة ميرو وحتى حكومة سفر، هي سياسات تخدم شريحة رجال الأعمال وأدت إلى الإفقار وإلغاء الطبقة الوسطى»
الحديث عن طباعة العملة الحالية، يثير تساؤلات من نوع، كيف يتم تحديد كمية العملة المتداولة في السوق، وهل توجد منهجية متبعة؟
«هناك قانون يشرع للبنك أن يطبع كتلة النقود المناسبة، في أوقات الحاجة، أو لتبديل العملة المهترئة، أما تحديد سعر العملة المحلية يتعلق بمعرفة كم الكتلة النقدية المتداولة، ولا توجد إحصائية حقيقية لكم النقد الموجود لدى البنك المركزي، أو الموجود خارج سيطرة المصرف» أما العملة المطبوعة التي يقال إنها تبديل للعملة المهترئة، يتساءل الاستاذ عامر: « هل ما طبع يتساوى مع الكتلة المسحوبة، أو المهترئة، أم أن هناك زيادة في الكمية المطبوعة، وهو ما سيؤدي إلى زيادة في التضخم.»
« التضخم الذي زادته إجراءات تثبيت الصرف المتبعة، بلغ مستوى عالياً على الرغم من أن الحكومة لم تنفذ ما تم اقراره بميزانياتها، أي كان من الممكن أن يزداد بشكل كبير جداً، والتساؤل من المسؤول الآن عن التضخم، ومن سيحاسب، وهل يجب أن يتحمل المواطن قرارات وأخطاء سياسات نقدية واقتصادية محابية للأغنياء؟! «
وجواباً على سؤالنا عن المعادلة العلمية التي تحدد كتلة النقد المتداولة وارتباطها بالكتلة السلعية..
كان جواب الاستاذ عامر، أن هذا غير موجود كلياً، لأننا لا نزال «في العصر الحجري»، وأبعد ما نكون عن التحديد العلمي للكتلة المطلوبة..