من حكومة إلى أخرى الوجوه تتغير ... والأزمات تستمر!

من حكومة إلى أخرى الوجوه تتغير ... والأزمات تستمر!

جملة من الأزمات، وعدد من القرارات الخاطئة، حيث شكل كل منها أزمة مستقلة انعكست على المواطن سلباً، هذه هي حصيلة ما أنتجته الحكومة خلال 15 شهراً الماضية، لتتحول من حكومة أزمة، يفترض بها أن تتصدى لجملة من التحديات والمشكلات التي تواجه الاقتصاد الوطني، 


إلى منتجة لأزمات إضافية خنقت الاقتصاد والمواطن السوري معاً، وقول المعنيين في ذلك «اشكروا ربكم» استطاع الاقتصاد الصمود رغم كل العقوبات التي فرضت عليه، دون أن يدروا أن قولهم هذا هو ادانة لهم، كونهم لا يزالون راغبين ومصممين على الارتباط بكتلة اقتصادية في كل أسبوع تقدم سلسلة جديدة من العقوبات الاقتصادية، لأن منفعة البعض فوق كل الاعتبارات..

منطق ومنطلق مشابه

لا يختلف منطق الحكومة الحالية من حيث المبدأ عن سابقاتها، والمتمثل في محاباة رأس المال، وأصحاب النفوذ الاقتصادي في كل القرارات التي يجري اتخاذها، فهي الحريصة على التشاور مع القوى الاقتصادية المتنفذة عند الإعداد لقراراتها، والذين يسعون جاهدين لشدّ القرار إلى جانبهم، وبما يخدم مصالحهم، بدءاً بقرار السماح بتصدير لحم العواس ومحاباة المصدرين في ذلك، مروراً بإشراك حيتان السوق السوداء وشركات الصرافة في قرار الحد من انخفاض الليرة أمام الدولار، وهذا ما «زاد الطين بلة»، كما أن فلسفتهم تقوم على إنكار وجود الأزمات عند ظهورها، والاعتراف بها فيما بعد كأزمة مارقة، وعند اشتدادها، تعلن الحكومة فشلها في مواجهتها، والشواهد غير قليلة، فمن أزمة الغاز، إلى المازوت، إلى الكهرباء وغيرها، وجديد الحكومة الحالية، هو تراجعها عن قرارات غير مدروسة جرى اتخاذها بعدما أحدثت أزمات إضافية، فالمنطق والمنطلق لم يتغير عبر الحكومات المتلاحقة، وهذا ما أنتج أزمات تشابه الأزمات التي أنتجتها الحكومات السابقة...

التجار صنّاع القرار الاقتصادي

أصدرت حكومة تصريف الاعمال الحالية جملة من القرارات، ولكنها سرعان ما تراجعت عنها، وجاء إلغاؤها انسجاماً مع مصلحة طبقة أصحاب الثروات، من رجال الأعمال، والتجار، والمستوردين، والذين ما زالوا صنّاع القرار الاقتصادي فعلياً، ففي شهر أيلول من عام 2011، أصدرت الحكومة قراراً يقضي بتعليق استيراد البضائع الأجنبية التي يزيد رسمها الجمركي على 5 بالمئة، لتصدر قراراً آخر بعد نحو أسبوعين فقط، يقضي بإلغاء تعليق استيراد البضائع الأجنبية، وفي النتيجة، انعكس القرار سلباً بارتفاع أسعار جميع السلع حتى المصنعة محلياً، وطوي القرار بعد الضغط الذي مارسه التجار والمستوردون المتنفذون على الحكومة، ولم تتراجع الأسعار رغم التراجع الحكومي..

كما اعتبرت الحكومة بعد عدّة أشهر من استلام مهامها، أن تمويل المستوردات كان قراراً خاطئاً، ليقدم بعدها حاكم مصرف سورية المركزي كتاباً يقضي بمنع المصارف من القيام بأية عملية بيع للقطع الأجنبي مقابل الليرة السورية، وذلك بدءاً من تاريخ 2/1/2012، لكنه بعد أيام من هذا الكتاب، وبتاريخ 10/1/ 2012، أصدر رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 249، والذي أجاز للمصرف المركزي بيع القطع الأجنبي للمصارف المرخصة لتمويل عمليات استيراد 129 مادة غذائية وطبية مما لا يزيد رسمها الجمركي على 1 % فما دون، ولكن رئيس الحكومة، عاد فأصدر بتاريخ 30/1/2012 قراراً يمنع بموجبه تمويل 62 مادة غذائية، وحصر قرار السماح للمصارف بتمويل المستوردات، لتترك هذه القرارات السابقة الذكر منعكسات سلبية على الأسواق، تمثلت بغلاء الأسعار طبعاً!.

وللمصدرين حصتهم

كما أن قرار السماح بتصدير 500 ألف رأس من لحوم العواس في مطلع الربع الثالث من عام 2011، كشف هو الآخر ثقل التجار والمصدرين في صناعة القرار الاقتصادي، فتحت بند النصيحة السحرية لمربي الأغنام سمحت الحكومة بتصدير الاغنام، والذين هم واجهة لمصدري الأغنام، فالمربي هو مصدر في الوقت ذاته، وهذا ما انعكس سلباً على المواطن السوري، وترك ندبة في جسد سلة استهلاك السوريين، برفعه أسعار لحم العواس بنحو 40 %، إلا أن الحكومة لم تتعظ من خطئها السابق، وتقدّم كل من وزيري الاقتصاد والزراعة منذ شهر تقريباً يطالبان باقتراح لتصدير 500 ألف رأس من الأغنام جديد، مستندين إلى احصاء للثروة الحيوانية مشكوك في دقته بالأساس، وعلى الرغم من عدم موافقة الحكومة على الاقتراح في المحصلة، إلا أنه أحدث ارتفاعاً في أسعار لحوم العواس، وهذا ما تم التحذير منه في السابق، بالقول إن هناك قراراً يبشر بارتفاع بأسعار لحوم العواس قريباً..

وللزراعة نصيبها

جرى الهجوم الحكومي على القطاع الزراعي من محورين، أولها، تخفيض دعم الإنتاج الزراعي بنحو 10 مليارات ليرة إلى 24 مليار ليرة لعام 2012 مقارنة بـ34 مليار ليرة في عام 2009، أي أن دعم هذا القطاع تراجع بنحو 29.5 %، ليلحقه قرار رفع أسعار الأسمدة بما يتراوح بين 3160 – 6400 ل.س للطن الواحد، وبنسبة وسطية تصل إلى 30 % تقريباً، وذلك بعد اتخاذ قرار حكومي آخر، برفع أسعار مختلف الأسمدة المخصصة للزراعة منذ أيام قليلة، حيث جرى رفع أسعار الطن الواحد من سماد سوبر فوسفات بنحو 6400 ل.س، وبنسبة 33.5 %، وسماد اليوريا بما يقارب 4900 ل.س للطن الواحد، وبنسبة 30.2 %، وسماد نترات الامونيوم بنحو 3160 ل.س، وبنسبة 26.7 %، ورفع سعر الطن الواحد من سماد نترات الامونيوم بنحو 3400 ل.س، وبنسبة 32 %، فنحن لم ننس بعد تأثيرات هكذا قرار مماثل في عام 2009 على تراجع الإنتاج الزراعي، وارتفاع مساحة الأراضي غير المزروعة، وتراجع مساهمة القطاع الزراعي بالناتج المحلي الإجمالي كما حصل في عام 2008، وخروج الفلاحين من العمل في الزراعة..

ويأتي هذا رغم اعتراف الجميع بأهمية القطاع الزراعي، إلا أن السياسات الحكومية تراوح مكانها في هذا المجال، مصممة على إنهاك هذا القطاع، الذي يؤمن الأمن الغذائي بالدرجة الأولى، ويدعم استقلال القرار السياسي ثانياً، فلماذا الإصرار الحكومي على تكرار سياسات أثبتت فشلها في السابق؟!

افتعال لثلاث أزمات

عايش المواطن السوري ثلاث أزمات متتالية، وتكررت أزمة بعضها لأكثر من مرة خلال الـ 15 شهراً الماضية، فمن أزمة الغاز التي أطلت برأسها على السوريين أكثر من مرة ضمن سلسلة من الأزمات المتلاحقة التي عاشها المواطن أيام الحكومة الحالية، وكذلك هو حال أزمة المازوت التي أوصلت سعر الليتر في ذروة الشتاء إلى 30 ليرة سورية، حيث كان يصطف السوريون طوابير يعانون فيها من عدم توفر مادة المازوت، كما أعاد التقنين الذي عاشته مختلف المحافظات لشهور عدة مشكلة القطاع الكهربائي إلى الواجهة، ليفضح الإهمال التاريخي لهذا القطاع، مذكراً أن «الرتوش» والحلول الجزئية لا تشكل المخرج السليم لأي من الأزمات..

كل أزمات قطاع الطاقة من الغاز إلى المازوت إلى الكهرباء كانت نتاج إهمال حكومي متراكم لذلك القطاع، والإصرار المشبوه على التعامل مع الأوروبيين رغم العقوبات، ورفض التحول إلى البلدان البديلة رغم جاهزيتها، فالبدائل أمام الإدارة الاقتصادية لاستيراد مادة الغاز أو المازوت كانت متاحة، وكذلك كان بالإمكان عقد اتفاقيات في مجال التغذية الكهربائية مع بعض الدول، وبالتالي كان يمكن تفادي الخلل من حيث المبدأ بعملية توريد تلك المواد من الخارج، بينما لم نستفد نحن من البدائل المتاحة، كما لم تسع الحكومة لكسر الاحتكار الحاصل في توريد المشتقات النفطية المتبعة منذ عقود، والتي كرست الاحتكار حتى في توريد المشتقات النفطية من الخارج، باعتمادها على عدد محدد من الموردين الأساسيين، ومن الدول الأوروبية حصراً، على الرغم من تخلي هؤلاء عن التزاماتهم تجاهنا مع كل أزمة ناشئة، ليدفع السوريون دائماً ثمن تلك الارتباطات مع الاتحاد الأوروبي، وهذا يؤكد أن الجزء الأكبر من الأزمة يعود لأسباب داخلية، وحصة العقوبات لم تكن ذات أهمية كبرى..

الليرة فقدت 36 % من قيمتها

تلك هي جملة القرارات التي اتخذتها الحكومة، وهذه هي الأزمات التي أنتجتها، ولكن ما هي نتائج تلك القرارات الكارثية والأزمات المتلاحقة على الاقتصاد الوطني؟! وعلى المواطن السوري أيضاَ!..

الليرة السورية لم تكن بحال أفضل من سواها بعد جملة القرارات الخاطئة السابقة، وهي التي فقدت نحو 36% من قيمتها خلال تسعة أشهر فقط، بعد تراجع قيمتها أمام سلة العملات الأجنبية من 47 ليرة سورية مقابل الدولار في مطلع أيلول من عام 2001 إلى 64 ليرة سورية حتى بداية شهر حزيران من عام 2012، وما لهذا التراجع من نتائج كارثية على القدرة الشرائية للسوريين..

ارتفاع الأسعار، كان هو الآخر الحلقة الثانية في مسلسل تراجع القدرة الشرائية لدخول السوريين، فاستناداً إلى أسعار المواد وفق النشرة الصادرة عن وزارة الاقتصاد -والمقارنة تجري بالرقم الرسمي- تبين ارتفاع متوسط أسعار 24 سلعة أساسية بنسبة 46 % بالحد الأدنى، وبنسبة 80 % بالحد الأعلى، وذلك خلال شهر أيار من العام الحالي مقارنة مع أسعار السلع خلال الشهر ذاته من عام 2011 الماضي، أي أن متوسط ارتفاع أسعار سلة المستهلك السوري (24 سلعة أساسية) وصل إلى 63 % تقريباً..

تراجع القدرة الشرائية إلى النصف

ترافق انخفاض قيمة العملة السورية مقابل سلة العملات الأجنبية بنسبة 36 % مع ارتفاع في الأسعار بنسبة وسطية تقدر بنحو 63 %، وهذا يعني أن القدرة الشرائية للمواطن السوري قد تهاوت بشكل كبير، أي ان القدرة الشرائية لليرة السورية قد تراجعت إلى النصف بالحد الأدنى، حيث أشرنا في تحقيق سابق إلى أن حجم التراجع في الدخل الحقيقي للسوريين بلغ 49 %، أي أن متوسط إنفاق الأسرة السورية قد ارتفع إلى نحو 46 ألف ليرة سورية بفعل الارتفاع الحاصل في الأسعار، وتحديداً منذ تشكيل الحكومة الحالية في شهر نيسان من عام 2011، وهذا يؤكد أن إنفاق السوريين قد ارتفع بمقدار 15200 ليرة سورية..

وللبطالة حصتها

لم تكن مؤشرات معدلات البطالة افضل من سواها، حيث ارتفعت النسبة من 8.4 % في عام 2010 إلى 14.9 % في عام 2011، وفق الارقام الرسمية، وذلك لتسريح ما يزيد عن 100 ألف عامل منذ بداية الأزمة إلى اليوم من القطاع الخاص، وعجز القانون 17 عن حمايتهم، وهو ما أباح التسريح التعسفي، بالإضافة إلى توقف الاستثمارات الحكومية على الرغم من تحديدها بنحو 370 مليار ليرة في موازنة الحكومة الجديدة، كل ذلك انتج ارقاماً اعلى من البطالة..

المؤشرات الاقتصادية الجزئية منها والكلية شهدت تراجعاً واضحاً، ولم يكن ذلك بفعل العقوبات، أو الازمة الوطنية الشاملة التي نعيشها اليوم، على الرغم من اعترافنا بتأثيرها على الاقتصاد دون شك، ولكن لا بد من القول، إن القرار الاقتصادي المرتبك، والخاضع لاعتبارات المصالح الضيقة للبعض على حساب المصلحة الوطنية، ورفض كل البدائل المتاحة التي يمكنها انتشال الاقتصاد الوطني من أغلب ازماته، هي من أدت لإغراق المواطن والاقتصاد السوري بسلسلة من الأزمات المتكررة والمتلاحقة التي ستصبح عصية عن الحل إن لم نسع لتغيير طبيعة النهج الاقتصادي الذي نسير به منذ أكثر من عقد من الزمن..