التجار وأسعارهم.. في قلب الحرب الاقتصادية

التجار وأسعارهم.. في قلب الحرب الاقتصادية

كيلو الرز اليوم بـ 250 ليرة، بكرا بـ 300 ليرة، كيلو الحليب اليوم بـ 120 بكرا بـ 160 ليرة، وهكذا تطول القائمة لتشمل جميع السلع والمواد الاستهلاكية التي استمرت بالقفز ارتفاعاً وابتعاداً عن مقدراتنا على الدفع،

فدائرة دخل الأسرة السورية تضيق منذ بداية الأزمة لتخرج منها المواد التي تتضخم أسعارها والتي تفقد أهميتها في خطة التقشف الجماعي التي يعيشها السوريون في الحرب التي تشهدها بلادهم، خرجت اللحوم والفروج لتقتصر على المناسبات وعلى حساب أساسيات أخرى، وفقد الحليب وبيض الصباح اليومي عن طاولة الإفطار.. لتبقى الخضار المحلية توحد «طبخات» السوريات بأرخص الأنواع المتوافرة وأكثرها تداولاً..
أما التهمة في هذا الواقع فتكال بالتوازي على التجار الذين لايرحمون، والدولار الذي لا ينخفض والدولة التي لا تراقب ولا تتصرف إلا ببرودة وبتثاقل بيروقراطي غير مسبوق تحديداً بالمقارنة مع سرعة وحدة الارتفاعات.. وقبل هذا وذاك يدرك الجميع أن «الحرب» والأزمة الوطنية هي قاعدة تفجر أزمتهم المعيشية وأزمة البلاد الاقتصادية فتكال التهم على كل من يزيدها استعاراً..
سنختار كبار المحتكرين من ضمن هذه الأطراف، كنقطة بداية في كيل الاتهامات، والاختيار ليس عشوائيا حيث يتضح أن هؤلاء حلقة تتصل بكل العوامل السابقة أي تستفيد من ظروف الحرب الاقتصادية لمصلحتها، وتستفيد من ارتفاع سعر الصرف وتصعده، ومستفيدة سابقا والآن من ضعف الدولة وتراجع دورها في التوزيع والعرض ليرجح ميزان القوى لمصلحة هؤلاء، مما يضعف الرقابة الأمنية للدولة على عمليات الاحتكار والاستغلال التي تجد لها في وقت الأزمات بيئة حاضنة من الفوضى..

المحتكرون الكبار: ذريعة سعر الصرف.. «طاقة الفرج»

يمتلك تجار الجملة والكبار منهم تحديداً الكثير من القدرة الاقتصادية، وأي محتك بالسوق المحلية وعامل بها، يعلم بأن لكل سلعة مستوردا كبيرا، ولكل مادة منتجة محلياً أيضاً عددا محددا من الموزعين الرئيسيين يتحكمون بعمليات التسعير بحيث تجري عمليات البيع في السوق بعد أن ينطلق سعر الحد الأدنى الأولي المسعّر من قبلهم، متضمناً هامشاً كبيراً من الربح الاحتكاري التجاري،الذي يتجاوز هامش الربح في السوق ويتغير بشكل مستقل نسبياً عن الظروف المتعلقة بعملية العرض والطلب، متجهاً للتوسع مع كل «ابتلاع» لكبار تجار الجملة لحصة الأصغر منهم في السوق وبالتالي قدرتهم على الانفراد بالتسعير، لا تزال هذه «المركزة» في تجارة السلع المحلية أقل إذا ما قورنت بمستوردي السلع، ففي السلع المحلية توزع الحصص مناطقياً ليتحكم بضعة تجار بسوق اللحوم في دمشق والمنطقة الجنوبية مثلاً، أو بضعة تجار في أسواق الهال التي تسعر الخضروات والفواكه المحلية في كل منطقة سورية، أما في عمليات الاستيراد فإن مستوى مركزة عملية التحكم بالسلع أكبر بكثير، ليتحكم تاجر باستيراد السكر، وآخر باستيراد الحديد، وأحدهم أيضاً باستيراد اللحوم، وبضع شركات باستيراد مستلزمات الإنتاج الزراعي من أدوية وغيرها..
قدرة المحتكرين على توسيع هامش ربحهم،تختلف من سلعة إلى أخرى، ولكن هذا الهامش يميل بشكل طبيعي نحو الازدياد مع توسع حجم الكبار في السوق وانفرادهم به، ولكنه يبقى متغيراً وفق ظروف العرض والطلب ووفق تغيرات قيمة العملة المتجلية بسعر الصرف، وبناء على طبيعة المادة ومدى أهميتها، ووجود عوامل تكسر السعر الاحتكاري أم لا.. وكل هذه العوامل في مراحل الفوضى والأزمات تصبح فرصة لتوسيع ربح كبار المحتكرين تحديداً مع غياب دور الدولة، وفي شرح هذه العوامل نبدأ من المحدد الأساسي العرض والطلب
فوضى العرض والطلب
خلال الأزمة الحالية التي أوقفت عجلة الإنتاج وجعلت عمليات الاستيراد أصعب نسبياً في ظل العقوبات، وضيقت عمليات التبادل المحلية، فإن السمة العامة للسوق هي بتراجع عرض السلع فتراجع الإنتاج السلعي (زراعي وصناعي) وفق تقديرات هيئة التخطيط لعام 2012 تراجع بنسبة 50%، ازدادت بشكل مؤكد في عام 2013.
انخفاض العرض يساعد على رفع السعر الاحتكاري للتجار، فمن يمتلك البضاعة القليلة ويتحكم بتوجهها يمتلك القدرة على التحكم بسعرها ورفعه بالحد الذي يحدده مستوى الحاجة إلى السلعة وإمكانية التخلي عنها وتراجع الطلب عليها إذا ما ارتفعت إلى حدود غير مقبولة، ولكن في حالات الانخفاض الكبير في العرض فإن تراجع الطلب جدياً على المواد يصبح أقل، وتصبح أي كمية قليلة من السلعة يؤمنها التجار، تجد من يشتريها حتى في حالات رفع السعر بمضاعفات كبيرة، وذلك ينطبق تحديداً على المواد الغذائية الرئيسية، ومواد استهلاكية أخرى كالأدوية ومواد البناء، والألبسة.
فتوفر كمية تبلغ 15 ألف طن من الأرز في السوق خلال شهر آب 2013 مثلاً، مقابل متوسط طلب شهري 30 ألف طن كما في عام 2010، يسمح للمستوردين الكبار بتسعير الكغ بعيداً عن سعر الكلفة وهامش الربح التقليدي 20-30% (كما يتعارف عليه في قانون المنافسة ومنع الاحتكار) بحدود تصل 200-300% ربح احتكاري.
بالتالي فإن تراجع العرض يشكل فرصة للمتحكمين بالمواد لرفع السعر الاحتكاري إلى حدود مرتفعة، مستفيدين من ذرائع متعددة وارتفاع سعر الصرف في مقدمتها.
سعر الصرف الذريعة الفرصة
التذمر الكبير من ارتفاع سعر الصرف يعود إلى ربط سعر الصرف بالارتفاع الكبير في مستوى الأسعار، ليصبح الدولار وسعره اليومي في السوق هاجس الجميع حتى لدى المستهلك السوري الذي لم تمر عملة التجارة الدولية في محفظته المحلية يوماً.. وهذا الربط محق وذلك باعتبار أن تراجع الإنتاج والعرض المحلي يتم الاستعاضة عنه بالمواد المستوردة بشكل رئيسي، والمنتج المحلي يعتمد سواء كان زراعياً أم صناعياً على مستلزمات مستوردة، فالبندورة المنتجة محلياً مثلاً .. تحتاج إلى مواد مستوردة تشكل كلفتها نسبة 56% من تكاليف إنتاج الموسم بالحد الأدنى.
إذاً ارتفاع سعر صرف الدولار وتراجع قيمة الليرة مقابله يؤدي حتماً إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار، ولكن النقطة الأساسية هي بنسب الارتفاع؟؟
فارتفاع أسعار السلع أولاً يفوق بحالات كثيرة ارتفاع سعر الصرف، وثانياً ارتفاع أسعار السلع يأخذ اتجاهاً متصاعداً ويحافظ عليه حتى مع تراجع أو استقرار نسبي لسعر صرف الدولار في السوق، فارتفاع سعر الصرف بنسبة 300% ترافق مع ارتفاع في أسعار السلة الغذائية بنسبة تفوق 400%، والأهم هو التحرك السريع للأسعار صعوداً مع كل ارتفاع لسعر الصرف، وعدم هبوطها مع انخفاضه. ويعود ذلك إلى تحول سعر الصرف المرتفع، إلى وسيلة لتحقيق ربح احتكاري أعلى، حيث أن استيراد التجار للمواد في أوقات انخفاض سعر الصرف، أو بسعر صرف مخفض من المصرف المركزي وفق عملية تمويل المستوردات (التي أعلن عن إيقافها مقابل فتح باب تحديد مجموعة من المواد الغذائية والرئيسية غير المعلنة والمحددة بدقة، والتي تسمح بحالات انتقائية بناء على وزن التجار ومستوى نفوذهم) والبيع في السوق عند ارتفاع سعر الصرف الذي يفرض ارتفاعاً مرافقاً للمستوى العام للأسعار..
لذلك تكثر حالات تخزين المواد التي يظهر منها حالياً تخزين الدقيق التمويني وفي آخر حادثة موثقة اكتشاف مستودعي تخزين في ريف دمشق بمفرده، أحدها يحوي 7,5 طن من، وفي الآخر 10 أطنان، وهذه العملية تهدف إلى تخزين المواد  في المستودعات إلى حين ارتفاع سعر الصرف، والبيع بهامش ربح أعلى. «على سبيل المثال يرتفع سعر الصرف من خلال الإشاعات التي يروجها تجار السلع، والسعر الذي يرفعونه في السوق، حيث تتقاطع السوق السوداء مع هؤلاء بشكل كبير ليشكل بعض تجار السلع وزناً رئيسياً في سوق المضاربة على العملات.» حيث تشير معطيات من مدينة حلب أن تجار المواد الغذائية يسعرون المواد وفق سعر صرف 300 ل.س على الرغم من أن سعر السوق السوداء انخفض عند هذا الحد واستقر لفترة نسبية في حدود 200 ل.س/للدولار.
الدولة «التاجر الأكبر»
الإطار القانوني المحابي للأقوياء يشكل حاجز الدفاع الأول لهؤلاء في وجه محاولة تجاوز هذه القوى الاقتصادية اليوم في لحظة الأزمة ويمنع الإجراءات السريعة، وتجاوزه بتشريعات واستثناءات طارئة ضرورة، إلا انه يبقى الإطار القانوني المحدد  على أساس وزن هذه القوى اقتصادياً ومن المفترض نقل  سقف الإجراءات إلى مستوى أعلى وهو تغيير هذا الميزان والبحث عن منافس قوي لهؤلاء يمتلك القدرة على كسر حالة الاحتكار دون أن يدخل في إطار توافقات السوق والعمل وفق منطقها، وهو التاجر الأكبر ذو البعد الاجتماعي أي جهاز الدولة.
في المسبب الرئيسي لهذا التقدم لقوى السوق ووصولها إلى مستوى عالٍ من الاحتكار يكمن تراجع دور الدولة في عملية التوزيع كما كررنا سابقاً، حيث ازدادت بين عامي 2006-2009 مستوردات القطاع الخاص بنسبة 100%، بينما تراجعت مستوردات القطاع العام بنفس الفترة بمقدار 100%، وفي عام  2009 بلغت مستوردات القطاع الخاص خمسة أضعاف مستوردات العام، وثلاثة أضعافه في عام 2010.
وكما يتضح الآن في ظروف الأزمة مع كل ارتفاع كبير في ارتفاع أسعار مواد رئيسية، أو تراجع في عرضها، يدفع الواقع جهاز الدولة إلى ملء الفراغ ليضطر إلى كبح جماح الليبرالية الاقتصادية والتراجع عن «مقدسات» سابقة كحرية السوق وضرورة المنافسة وآلية السوق، لتصبح مفاهيم وآليات العمل التي تعتمد على الدولة هي الإجراءات الوحيدة البديلة، ما يتثبت لاحقاً وموضوعياً الاتجاه المنافي للتحرير الاقتصادي، وهذا ما يحصل في عودة العمل بالتسعير الإداري ودعوة الدولة إلى تفعيل مؤسسات بيعها المباشر، وعودتها إلى استيراد المواد الأساسية، إلا أن مستوى التباطؤ والتثاقل الذي تعمل به الدولة في هذا الاتجاه يعود إلى إعاقة كل من لا يريد أن يحيد عن التحرير في خدمة كبار المحتكرين، لأن ذلك يؤدي مع الوقت إلى تغير في ميزان القوى، ويتيح مزيداً من الرقابة الأمنية وتغير التشريعات القانونية التي يتكيف مستوى عملها بشكل دائم مع مصلحة الأقوى، فقوة الدولة الاقتصادية تجعل هذه الإجراءات أقوى وأكثر جدوى، وتجعل الرقابة الأمنية على الأمن الاقتصادي أكثر جدوى وتفتح على تغيير التشريعات.

تجار تمول مستورداتهم.. وترتفع أسعارهم مع الصرف
يستمر تمويل مستوردات تجار مواد رئيسية من البنك المركزي حتى اليوم، حيث أن حوالي 23 شركة استيراد مواد غذائية وعلفية، بالإضافة إلى شركات أدوية، ومستلزمات زراعية تغطي جزء كبير من السوق السورية، لا تزال تحصل على تمويل لمستورداتها، وتمويل مستورداتها أي استيرادها بسعر صرف منخفض مدعوم من البنك المركزي، أي أن ارتفاع سعر الصرف لا تؤثر تغييراته على كل هذه الشركات الكبرى المستوردة للسوق السورية، ومع ذلك لا تزال أغلب أسعار المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات التي تؤمنها متغيرة مع ارتفاع سعر الصرف، لتفقد حوالي 14 مليون يورو تمويل مستوردات لهذه الشركات الأثر المطلوب منها في دعم جدي لتخفض أسعار سلعها في السوق..
في ظل استمرار عملية التسعير بناء على سعر الصرف المتغير، وزيادة هامش الربح.