من أوكرانيا إلى طهران وبكين: خرائط الصراع في النظام العالمي الجديد
إن نظرة سريعة إلى العالم الذي نعيش فيه كافية لإدراك أننا نشهد تعقداً وتصعيداً أعلى في كل يوم جديد، وإن كانت النزاعات تتصاعد وتنخفض في بقعة ما إلا أن المشهد الدولي بأكمله يزداد سخونة، ولا يمكن رصد أي بادرة حقيقية للتهدئة حتى بات من المنطقي القول: إن أي تهدئة في أي مكان يقابلها تصعيد أشد في مكانٍ آخر!
إن نقطة الارتكاز الأساسية في فهم كل هذا التصعيد هي من خلال وضعها في سياق صراع شامل مركزي على شكل النظام الدولي، ومنه تتفرع كل الصراعات التي تظهر بوصفها تجليّاً له، فإلى جانب الظروف الملموسة الخاصة لكل صراعٍ على حدة تشترك كل الصراعات اليوم بامتدادات إقليمية دولية واسعة، سواء من حيث الغطاء السياسي، أو الدعم الاقتصادي وتسليح الأطراف، أو مساندتها بشكلٍ مباشر.
أمثلة ملموسة
كانت حرب الـ 12 يوم بين «إسرائيل» وإيران مثالاً نموذجياً على ما سبق، فالهدف الأمريكي-«الإسرائيلي» من الحرب كان إسقاط إيران، بما يعنيه ذلك من تغيير نوعي في التوازن الإقليمي القائم، وهو ما يمكن ترجمته على المستوى العالمي إن حصل، بمثابة نقطة لصالح المعسكر الغربي، وكان من الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة فضلاً عن الدعم الكبير الذي قدمته لجيش الاحتلال، كانت مضطرةً للتدخل بشكلٍ مباشر، ونفذ الجيش الأمريكي بنفسه ضربات أثناء الحرب، وفي المقابل، تلقت إيران دعماً ملموساً عبر شبكة إقليمية كان في حده الأدنى سياسي الطابع وعسكرياً في حده الأعلى، كنتيجة طبيعية لإدراك الأهداف العميقة للمعركة، فبالنسبة لدول الإقليم مثل: تركيا والسعودية، وبالرغم من الخلافات القائمة مع إيران إلا أن إسقاطها يعني استهدافاً مباشراً للترتيب الإقليمي القائم، الذي تُعتبر أنقرة والرياض أركاناً فيه، كما بدا واضحاً أن الصين وروسيا كانتا حاضرتين في المشهد، سواء قبل الحرب أو بعدها، وهو ما تؤكده مجموعة من التقارير.
على هذا الأساس لا يمكن النظر إلى هذه الحرب إلا من هذه الزاوية الشاملة، وما ينطبق عليها ينطبق أيضاً على جملة الصراعات الأخرى المشابهة.
المسارات المغلقة
لكن الإقرار بأن هناك صراعاً مركزياً على المستوى العالم يظل قاصراً إذا لم ننظر إلى الاستراتيجيات التي تضعها الأطراف في إدارة هذا الصراع، ويبدو المثال الإيراني قاصراً على تقديم جوابٍ عن سؤالٍ كهذا، فإن مجمل المواجهات المشتعلة اليوم تستهلك إمكانات عسكرية واقتصادية كبيرة، لكنها بمجملها لم تحقق الهدف الأمريكي الجوهري في وقف عملية التحول الدولي الجارية، بل إن كل محاولة جديدة فاشلة لعرقة ولادة نظام دولي جديد تعطي زخماً جديداً لعملية الانتقال وتسرّعها. فالصراعات التقليدية المشتعلة بمجملها لا يمكنها إحداث عرقلة شاملة، ففي أوكرانيا تضيق احتمالات الصراع بشكله التقليدي، وهو ما يفسر الحديث المتكرر عن السلاح النووي والأسلحة غير التقليدية، فالاستراتيجية العسكرية الروسية شكّلت- رغم انتكاسات هنا وهناك- حائط صدٍ منيع، ما يضع الولايات المتحدة وكل المنخرطين إلى جانبها في هذا الصراع أمام خيارٍ صعب؛ إما قبول الهزيمة أو اللجوء إلى الأسلحة الاستراتيجية، وهو ما يمكن أن يتحوّل إلى حرب نووية شاملة لا تبقي ولا تُذر!
«استراتيجية تحديد الأولويات»
يظهر على الساحة الأمريكية تيار واضح المعالم يعبر عنه الرئيس دونالد ترامب، ينطلق من جملة حقائق لم يعد بالإمكان إنكارها، ويضع رؤيته لإدارة الصراع وفق هذه المعطيات تحت عنوانٍ عريض «استراتيجية تحديد الأولويات»، فمن جهة يدرك هذا التيار أن الشكل السابق الذي صدّرت الولايات المتحدة فيه نفسها كـ «عرّاب» لنظام دولي محدد، لم يعد قادراً على الاستمرار بعد محاولات استمرت لعقودٍ ثلاثة، حققت فيها واشنطن تقدماً مؤقتاً، لكنّها لم تعد قادرة اليوم على المضي قدماً، بل ويفرض عليها التراجع عن أوهامٍ كهذه، ويرى أنصار هذا التيار أن الانتشار العسكري الكبير، والانخراط في عدد غير منتهٍ من الصراعات، شكّل استنزافاً لقوّة الولايات المتحدة، وخصوصاً مع الموارد المحدودة التي تملكها، وتراجع قدرتها على السيطرة على موارد الآخرين، وتراكم ديون ضخمة وصلت إلى 38 تريليون دولار، ومن المرجّح أن تضطر الولايات المتحدة لتوجيه جزء وازن من مواردها المحدودة للإنفاق على الاستحقاقات الاجتماعية، التي باتت تعبر عن نفسها عبر حركة شعبية واسعة في الداخل.
كما يرى هذا التيار الأمريكي في الصين التهديد الجيوسياسي الأكبر والأكثر إلحاحاً، وأصبحت الصين منافساً قوياً اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً، متفوقة على الاتحاد السوفييتي السابق، لكن بفارق أن الولايات المتحدة أضعف بكثير بالمعنى الاقتصادي، عمّا كانت عليه في ذلك الوقت. ولذلك يبدو الانخراط في أي مواجهة أخرى بعيداً عن الصين مضيعةً للوقت، وخصوصاً أن بكين أثبتت قدرة عالية على تحقيق مكاسب استراتيجية من كل الصراعات الأمريكية المتفرقة.
الخصم الأعنف في الداخل!
إن «استراتيجية تحديد الأولويات» ليست استراتيجية معتمدة بعد، بل هي موضوع أساسي للتجاذب الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي مقابل تحديد الأولويات، هناك من يرى أن أي تراجع في أي ساحة من ساحات المواجهة يعني فعلياً خسارة على الساحة الأساسية، ويعني ترك مساحات واسعة تسمح للصين بخلق فضاء اقتصادي وسياسي كبير حولها، بعيد عن الهيمنة الأمريكية، ما يعزز موقع الصين في أي مواجهة قادمة إلى تلك الدرجة التي يمكن أن تكون المواجهة محسومة حتى قبل أن تبدأ، وكل ذلك تنجح بكين في تحقيقه عبر تخصيص الحد الأدنى من الموارد، وعبر منهج مختلف جذرياً عن المنهج الأمريكي، إذ تملك الصين قاعدة عسكرية واحدة معلنة في الخارج، وبضعة آلاف من الجنود، في مقابل أكثر من 750 قاعدة أمريكية منتشرة في أكثر من 80 دولة، بتعداد قوات يفوق الـ 250 ألف جندي!
«الحرب التجارية» معركة في حربٍ شاملة!
اعتمد الرئيس ترامب منذ بدء ولايته الجديدة على الرسوم الجمركية كأداة في الصراع، واستهدفت هذه الرسوم الصين عبر سلسلة متدرجة، وصلت في حدها الأقصى إلى 145% لكن الصين في المقابل لم تقف مكتوفة الأيدي، بل ردت من جانبها بسلسلة من الإجراءات والرسوم المقابلة كان أبرزها: وقف استيراد كميات هائلة من المنتجات الزراعية، مثل: فول الصويا، كما استخدمت معادن الأرض النادرة بالاستناد إلى احتكار تصنيعها، ما دفع الولايات المتحدة إلى تراجعٍ أوليّ جاء على شكل مخرجات في قمّة ترامب وشي الأخيرة قبل أيام، ما يشير إلى أن قدرة الولايات المتحدة على فرض شروطها هو وهمٌ، بل إن الجولة الأولى من «الحرب التجارية» أظهرت الصين بوصفها المنتصر القادر على إعادة صياغة القواعد بالاستناد إلى شروطها.
ما سبق لا يتعدى كونه محاولة لتقدير موقع القوى الدولية ضمن هذه المواجهة الشاملة، فتأثير الصراعات التقليدية الصغيرة والمتوسطة أضعف من أن يعيق ولادة العالم الجديد، وإن الصراع بين تيارين عريضين في الولايات المتحدة حول كيفية قيادة المواجهة، يجعل واشنطن في موقع أضعف بخطوات مترددة ومتأخرة، لكن المشهد العام يشير إلى أن الخيارات التقليدية تضيق، وسنجد أنفسنا قريباً أمام مفصل حاسم، إما أن تتحول هذه المواجهات إلى مواجهة دولية شاملة، وإما أن تخضع الولايات المتحدة وتقر بالواقع الجديد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250