إرث الفوضى... قراءة في اشتباك أفغانستان وباكستان
عادت إلى واجهة الأحداث خلال الأسبوع الماضي واحدة من أكثر الجبهات هشاشة في آسيا الوسطى، حيث شهدت الحدود بين أفغانستان وباكستان اشتباكات عنيفة، تخللتها غارات جوية وانفجارات في كابول، أسفرت عن عشرات الضحايا. لكن هذه الأزمة، رغم أنها بدت كحادثة أمنية بين دولتين متجاورتين، إلا أن جذورها تمتد إلى تاريخ طويل من التقسيمات القسرية والتدخلات الخارجية، التي أعادت تشكيل المنطقة وفق مصالح القوى الاستعمارية، لا وفق منطق الجغرافيا أو إرادة الشعوب.
في مساء 11 تشرين الأول 2025، اندلعت موجة تصعيد جديدة بين الطرفين. اتهمت كابول إسلام أباد بشن غارات جوية داخل الأراضي الأفغانية، تحديداً في ولاية باكتيا. فردّت القوات الأفغانية واستهدفت مواقع عسكرية باكستانية على الحدود، وشددت الحكومة الأفغانية على أنها «لن تتهاون في الدفاع عن أراضيها»، وأعلنت سيطرتها على 25 موقعاً عسكرياً باكستانياً خلال المواجهات.
من جهتها، أتهمت باكستان طالبان بالسماح لـ «عناصر إرهابية» باستخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات ضدها. وتوعّد رئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف بـ «رد قوي وفعّال» على ما وصفه بـ «الاستفزازات الأفغانية»، مؤكداً أن الدفاع عن باكستان «غير قابل للمساومة». وأغلقت السلطات الباكستانية جميع المعابر الحدودية، ما أدى إلى شلل تجاري واسع وتلف بضائع عالقة على الحدود. وفي محاولة لاحتواء التصعيد، تدخلت قطر والسعودية للوساطة، ما أسفر عن هدنة مؤقتة لمدة 48 ساعة بدأت في 16 تشرين الأول الجاري، وسط ترحيب حذر من الأمم المتحدة.
الجذور الاستعمارية للصراع
ينطلق فهم تعقيدات الوضع الراهن من إدراك الجذور الاستعمارية لنشأة هذين البلدين، باعتبارهما نتاجاً لتقسيم استعماري قسري لشبه القارة الهندية ومحيطها.
نشأت باكستان كنتيجة لتقسيم استعماري دموي فرضته بريطانيا في لحظة انسحابها من شبه القارة الهندية عام 1947م. هذا التقسيم، الذي هندسه اللورد البريطاني ماونتباتن، استند إلى الادعاء البريطاني باستحالة الوصول إلى توافق إسلامي-هندوسي.
أما أفغانستان، فقد خضعت منذ القرن التاسع عشر لتدخل بريطاني مشابه، تمثل في فرض خط دوراند عام 1893م، وهو خط حدودي استعماري فصل بين الهند البريطانية وأفغانستان، وقسّم القبائل البشتونية بين دولتين، وزرع بذور نزاع قومي مزمن. هذا الخط لم يكن مجرد ترسيم جغرافي، بل كان أداة استعمارية للتحكم في السياسة الخارجية لأفغانستان، مقابل منحها استقلالاً شكلياً هشاً.
كلا البلدين تعود نشأتهما إلى محاولات غربية لتثبيت نموذج الهيمنة عبر إيجاد العديد من التناقضات والفوالق الثانوية، والتي يمكن تأجيجها في أي وقت مستقبلاً وهو ما حصل فعلاً في مرات متكررة.
تتمحور نقطة التوتر الجوهرية بين كابول وإسلام آباد حول نشاط الجماعات المسلحة غير النظامية، وعلى رأسها «حركة طالبان باكستان»، التي تثير قلقاً متزايداً لدى باكستان بشأن مدى التزام حكومة طالبان الأفغانية بكبح نفوذ هذه التنظيمات داخل الأراضي الأفغانية. وتجسّد هذا القلق في مطالبة باكستان بنزع سلاح «طالبان باكستان»، وهو مطلب قوبل بالرفض من قبل كابول، مما يعمّق الشكوك حول قدرة طالبان على ضبط المشهد الأمني الداخلي. بالإضافة إلى الوزن الأمريكي داخل معظم هذه التنظيمات، بما فيها «طالبان باكستان»، الذي يضيف بعداً جيوسياسياً معقداً إلى معادلة الاستقرار في المنطقة.
تدرك القوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين، أن استمرار هذا الوضع يعيق مشاريع التعاون الإقليمي، ولذلك بدأت جهوداً لربط دول المنطقة، مثل: باكستان وأفغانستان في منظومات ومشاريع إقليمية جديدة، مثل: مشروع الحزام والطريق، والممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني CPEC والممر الاقتصادي الصيني-الأفغاني. كما شكل المؤتمر الذي ضم دول جوار أفغانستان في العاصمة الطاجيكية مؤشراً على جدية الدول الإقليمية في احتواء تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. إضافة إلى مشاركة أفغانستان الأخيرة باجتماعات «صيغة موسكو». وتعزيز نيودلهي علاقاتها مع كابول، مما يساعد طالبان على تعزيز مكانتها في الساحة الدولية.
في المحصلة، يتجاوز جوهر التوترات الإقليمية مجرد أسبابها المباشرة، ليكشف عن مسار يهدد مصالح المنطقة، ويقوّض فرص استقرارها. من هنا، تبرز الحاجة إلى مبادرات احتواء جادة من الفاعلين الدوليين المعنيين بالاستقرار، وأولى بوادرها الوساطة السعودية-القطرية والتي لن تبقى خطوة يتيمة. وفي ظل التناقضات القائمة بين دول وسط آسيا تتبلور مسؤولية إدارة تناقض المصالح، أمام روسيا والصين بشكل أساسي، اللتان تثبتان أنهما تملكان أدوات التأثير والقدرة على إعادة ضبط التوازنات في هذه الجغرافيا المتوترة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1248