في أسبوع واحد… الشرق يعيد رسم الخارطة

في أسبوع واحد… الشرق يعيد رسم الخارطة

خلال أيام قليلة، وبعد سلسلة من التحركات والرسائل الإقليمية، بات من الواضح أننا أمام تحوّل جيوسياسي جديد في منطقة الشرق، فاستمرار النشاط الصهيوني العدواني في العالم وفي هذه البقعة الحساسة منه بالتحديد، بات تهديداً لا يمكن السكوت عنه، وخصوصاً بعد العدوان «الإسرائيلي» على قطر، فما هي ملامح هذا التحول؟ وكيف يمكن الربط بين أحداث يراها بعض قصيري النظر متفرقة لا جامع بينها؟

أدت الضربة الصهيونية على الدوحة في 9 أيلول الجاري، إلى استشهاد عدد من أعضاء حركة حماس وعنصر من قوى الأمن الداخلي القطري، بالإضافة إلى عشرات الإصابات، من بينهم مدنيين متواجدين في المنطقة السكنية المستهدفة، ولكنّها سرعان ما تحوّلت إلى تحذير إقليمي عالي الخطورة، كان لا بد أن تتبعه خطوات ملموسة، بدأت بالظهور في 14 أيلول الماضي. فقد استضافت الدوحة اجتماعاً تمهيدياً لوزراء الخارجية العرب والإسلاميين، تلاه في 15 انعقاد القمة الطارئة العربية-الإسلامية بشكلٍ متزامن مع الاجتماع الدفاعي لمجلس التعاون الخليجي. هذه الاجتماعات جاءت متمايزة عن القمم واللقاءات السابقة، إذ دعت القمة في بيانها الختامي إلى «النظر في مدى توافق عضوية [إسرائيل] في الأمم المتحدة مع ميثاقها، والسعي نحو تعليق هذه العضوية» لكن أبرز ما خرج من الدوحة في الإثنين 15 أيلول هو عدد من الإشارات الواضحة، واتخاذ خطوات عسكرية وأمنية، فبعد أن اعتمد مجلس جامعة الدول العربية وثيقة «الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة» أعلن الاجتماع الدفاعي لمجلس التعاون عن تفعيل آليات الدفاع المشترك وقدرات الردع لدول المجلس. وهو ما كان من الممكن أن يظل في إطار كونه تصعيداً دبلوماسياً، لكن أحداث الأيام التالية برهنت عكس ذلك.

أحداث سريعة ومترابطة

بعد يوم واحد من انتهاء القمة، استقبل كل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، يوم الثلاثاء 16 أيلول، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، ولكي تتضح طبيعة اللقاء أكثر، كان من المشاركين من الجانب السعودي كلّاً من وزير الدفاع ومستشار الأمن الوطني السعودي، ورئيس الاستخبارات العامة. وقال لاريجاني صراحةً: إن نقاش التعاون الدفاعي كان على جدول الأعمال، وأنّه سيُتابع عبر لجان عمل، وسيأخذ شكلاً أكثر تنظيماً في المستقبل. ثم في 17 أيلول أعلنت السعودية وباكستان عن توقيع اتفاقية «دفاع مشترك استراتيجي» نصّت وضوحاً: أن أي عدوان ضد أي من البلدين سُيعتبر اعتداءً على كليهما، وأكد وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف أن قدرات بلاده النووية ستكون متاحة لحماية السعودية بموجب الاتفاق، ورغم أن هناك تاريخاً طويلاً من التعاون العسكري بين البلدين، إلا أن الإعلان سبب صدمة حقيقية، كونه جاء دون تمهيد مسبق، ولم يكن هناك حديث معلن عن تحضيرات لخطوة بهذا الحجم، وأشار آصف إلى أن دولاً أخرى أبدت اهتمامها باتفاقات دفاع مماثلة في المستقبل.

الأحداث لم تتوقف عند هذا الحد، ففي 18 أيلول أعلنت وزارة الدفاع التركية عن التحضير لإجراء مناورات «بحر الصداقة» مع مصر في شرق المتوسط، وذلك بعد توقّف دام 13 عام، ومن المقرر أن تبدأ المناورات العسكرية في 22 ولغاية 26 وسيحضرها قائدا القوات البحرية لتركيا ومصر. وفي هذا السياق قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: إن العلاقات التركية-المصرية وصلت حالياً إلى «أفضل مستوياتها في التاريخ الحديث» واعتبر أن مصر وتركيا تتصرفان مثل «الجسد الواحد» في قضية فلسطين.

ولكي تكتمل الحلقة خرج أمين حزب الله اللبناني نعيم القاسم يوم 20 أيلول في كلمة متلفزة قال فيها: إن «سلاح المقاومة موجّه نحو العدو [الإسرائيلي] فقط، لا نحو السعودية ولا نحو أي جهة في العالم،» ودعا السعودية بتصريح مفاجئ لتفتح صفحة جديدة مع المقاومة، معتبراً أن الوضع في المنطقة أصبح بعد الهجوم على قطر «مختلفاً عما قبله».

نتيجة طبيعية متوقعة

نظرت وسائل إعلام داخل الكيان بقلقٍ شديدٍ لهذه التطورات، فقد وصفت «يديعوت أحرونوت» اتفاقية الدفاع المشترك الباكستانية-السعودية بكونها «الخطوة الأمنية الأولى لدول الخليج بعد الضربة الجوية على الدوحة» ورأت فيها رسالة مباشرة «لإسرائيل» وتحديداً كونّ التلويح بالسلاح النووي الباكستاني موجّه إلى «إسرائيل» النووية. ورأت مصادر صهيونية أخرى أن الاتفاقية تمثّل «علامة استراتيجية قد تعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة» ونبّهت إلى أن «التحالف بين القوة المالية السعودية والقدرة العسكرية الباكستانية يوصف بأنه محاولة لإعادة رسم خريطة الأمن في الخليج».

ما سبق، يرسم فعلاً نقطة علّام في واقعٍ جديد في المنطقة، وإن كنا طوال الشهور الماضية نسمع تصريحات رفض واستنكار يومياً من هذه الدول، اليوم بدأنا نشهد إجراءات ملموسة وتحركات قادرة على إعادة الحسابات الصهيونية، ففي الواقع شكّل سلوك «إسرائيل» والولايات المتحدة من خلفها خطراً حقيقياً على استقرار المنطقة، بل جاء العدوان على قطر ليؤكد أن المعركة لن تستثني أحداً، والأهم، أن «مظلّة الدفاع الأمريكية» لا تحمي من الاعتداءات «الإسرائيلية» بل تحوّلت القواعد الأمريكية إلى نقاط متقدمة، تقدّم كل ما يحتاجه الكيان في حربٍ كهذه.

إن ترتيب الأفكار السابقة سيجعل من أحداث الأيام الماضية نتيجةً طبيعةً لواقع يتطور بشكلٍ محدد، بل وتفتح المجال للتفكير بطبيعة الخطوات التالية؛ فإن كان تزامن هذه الأحداث كفيلاً بالربط بينها، فكيف يمكن أن نقرأ تصريحات نعيم القاسم مثلاً؟ وخصوصاً أنّها جاءت بعد أيّامٍ من زيارة مسؤول إيراني رفيع إلى السعودية، وما الذي يعني أن تستأنف مصر وتركيا التعاون العسكري، وتحديداً في شرق المتوسط؟ وإن كانت باكستان والسعودية وقعتا اتفاقية دفاع مشترك، فمن هي الدول التي توقّع وزير الدفاع الباكستاني انضمامها؟ بل إن السؤال الأهم هو التالي: إن كانت دول الخليج اعتمدت طوال عقود على شراء السلاح الأمريكي وأصبح هذا السلاح اليوم بمثابة تهديد حقيقي للأمن الوطني في الخليج، فهل يمكن أن تتحول العلاقة مع باكستان إلى تمهيد لعلاقة معلنة مع روسيا والصين في مجال التسليح، وخصوصاً أن الجيش الباكستاني بدأ يعتمد بشكلٍ أساسي على تسليح دول الشرق؟

ما جرى خلال الأسبوع الماضي كان قبل طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 أقرب ليكون قصصاً من الخيال، لكن الواقع الحالي يثبت أن المقاومة الفلسطينية عبّرت في تلك اللحظة عن نضوج ظرف ينتهي فيه عصرٌ مظلّمٍ، استطاعت فيه الحركة الصهيونية أن تفرّق دول المنطقة وتبني جُدراً بين شعوبها، وهم اليوم وبعد أن شعروا بأن «إسرائيل» توجّه بنادقها نحو الجميع يجدون أنفسهم مضطرين لطي صفحة الخلافات، والوقوف صفّاً واحداً، لا مع بعضهم البعض فحسب... بل أيضاً مع قوى الشرق التي تحوّلت إلى ضمانة البقاء الوحيدة. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1244