«شنغهاي» والأساس المادي للعالم الجديد
في تيانجين الصينية، أنهت دول منظمة شنغهاي للتعاون قمتها الرئاسية الـ 25، وليس من المبالغة القول: إنها ستكون نقطة فارقة في تاريخ المنظمة، بل ستتعدى ذلك لتصبح حجراً أساسياً في بناء عالم جديد، ينهي الهيمنة الأمريكية، ويعيد ضبط البوصلة لتكون «دول الجنوب العالمي» في مركز العالم كما كانت تاريخياً.
حمل اختيار تيانجين رمزية مهمة كون المدينة الواقعة على الساحل الصيني الشمالي الشرقي ارتبطت بالذاكرة الصينية طويلاً، وكانت مسرحاً مهماً في تشكيل التاريخ الصيني الحديث، تيانجين كانت خاضعة لنفوذ 9 دول أجنبية، وتحوّلت في الحرب العالمية الثانية إلى مركز أساسي للقوات اليابانية الغازية، ثم أصبحت أحد ميادين الصراع بين القوميين الصينيين والشيوعيين الذين سيطروا على المدينة بشكلٍ ناجز في عام 1949 وتحولت تيانجين إلى رمز لاستقلال الصين، ما جعل من المناسب اختيارها لعقد قمة منظمة شنغهاي، والمرافق للذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية.
لمحة عامة
حملت المنظمة منذ نشأتها بعداً أمنياً عسكرياً، فقد كانت تطويراً لما عرف باسم «مجموعة شنغهاي الخمس» التي تشكّلت في 1996 وضمت الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان بهدف تعزيز الثقة العسكرية، وحل النزاعات الحدودية بين هذه الأطراف، ثم تأسست منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) عام 2001 لتتوسع عضويتها لتشمل أوزبكستان والهند وباكستان وإيران التي كانت آخر المنضمين في 2023 ومن المرجح قبول عضوية بلاروسيا في 2025 كما تضم المجموعة دولاً أخرى بصفة مراقبين أو شركاء حوار، من بينهم أفغانستان وتركيا والسعودية والإمارات ومصر، وتمتد القائمة لأكثر من 12 دولة، ورافق هذا التوسع الجغرافي توسعاً في عمل المنظمة إلى مجالات الاقتصاد والطاقة والبنية التحتية، حتى أصبحت منظمة مكتملة الأركان قادرة على أداء الدور المنوط بها في بناء عالمٍ جديد، وهذا ما بدا واضحاً في القمة الأخيرة.
ما سر القمة الـ 25؟
لم يكن الحديث عن بناء عالمٍ جديد طارئاً، بل ظل حاضراً طوال سنوات، وكانت النوايا واضحة في هذا الخصوص، لكن ومع ذلك لاحظنا تباينات فيما بين الدول المعنية، على الأقل في السرعة المطلوبة لأداء المهمة، وكيفية تفكيك الهيمنة الأحادية التي سادت العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وكانت مجموعة دول البريكس واحدة من الأطر الأساسية لهذا الطرح، لكنّها بدت إطاراً للحوار السياسي، وانصب اهتمامها على الجوانب الاقتصادية، وتفكيك البنى الغربية في القطاع المصرفي والمالي، ورغم أهمية ذلك لم تعلن المجموعة عن كيفية فرض هذا الواقع الجديد المنشود، في المقابل، ظهرت قمة تيانجين الأخيرة كخطوة أشمل، كون مستوى التوافق بين أطرافها أعلى، ويشترك جميعهم في حاجته الملحة لتسريع عملية التحول، فضلاً عن أن العرض العسكري الصيني المهيب الذي تلا القمة أعطى مخرجاتها وزنا واضحاً، سُمع صداه بقوة في الغرب والولايات المتحدة، لكن ذلك لا يكفي وحده لفهم أهمية قمة شنغهاي.
رأب الصدع
تتمتع أطر دولية كهذه بقدرة عالية على احتواء الخلافات البينية بين أعضائها، وكان لحضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي دلالة مهمة في هذا السياق، كونها الزيارة الأولى للصين منذ 2018 واتسمت العلاقة بين الهند والصين خلال تلك الفترة بمستوىً عالٍ من التوتر، بسبب النزاع الحدودي القائم بينهما، لكن الهند بهذه الخطوة تكون قد أعلنت نيتها الوصول لتفاهمات مع الجانب الصيني، والذي بدأنا نرى ملامح حلّه مؤخراً بعد زيارة وزير الخارجية الصيني إلى الهند في آب الماضي، والأهم، أن عودة الحديث عن حل هذه الخلافات بين بلدين بهذا الحجم يعني قدرة المثلث الروسي- الصيني- الهندي على فرض وزن كبير في الساحة الدولية، وفي مجمل مجالات التعاون المشتركة، فبناء شراكة راسخة بين هذه الأطراف والتخلص من الشوائب يجعل فرص فرض قواعد جديدة على الغرب أقرب من أيّ وقتٍ مضى، وهو ما سعت الولايات المتحدة لمنعه طوال سنوات.
دفن «نيكسون المعكوسة»
تحدثت صحف عالمية كثيراً ومنذ ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى عمّا عرف باسم «نيكسون المعكوسة» والتي عنت محاولة أمريكية لاستمالة روسيا ودفعها بعيداً عن الصين في مقاربة جديدة لما حققه مستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر في أثناء ولاية الرئيس الأمريكي نيكسون في سبعينيات القرن الماضي، فكان الهدف في حينه استمالة الصين والاستفراد بالاتحاد السوفييتي، وهو ما سهل عملية تفكيكه في تسعينيات القرن الماضي، لكن التجربة التاريخية والعلاقات الثنائية الصينية-الروسية التي جرى تطويرها منذ تلك الفترة لم تعد قابلة للكسر، وبدا كما لو أن المحاولات الأمريكية بتحريض دول، مثل: الهند والصين وروسيا ضد بعضهم البعض، عبر إغراءات شكلية أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع، ورغم أن المسألة ظلّت موضع تجاذبات، إلا أن ما شهدناه في قمة شنغهاي كان بمثابة النقيض لاستراتيجية «نيكسون المعكوسة» فبدلاً من أن تفرق واشنطن بين هذه الأطراف وجدتهم في صفٍ واحد، بينما بقيت هي على الضفة الأخرى وحيدة تنتظر مصيرها المحتوم، حتى أن الصحف الأمريكية قدّمت تعليقات واضحة في هذا الخصوص فـ «نيويورك تايمز» رأت أن «دفء مودي الواضح مع شي وبوتين» لا يتسق مع ما وصفته بالـ «البيروقراطية الهندية المتحفظة على المخاطر» معبرةً أن سلوك ترامب وفرضه للرسوم على الهند هو السبب في خلق هذا الواقع! أما المعلق السياسي الأمريكي فان جونز، فقد وصف المشهد في شنغهاي بأنه تحول من وضع «الولايات المتحدة والصين معاً وروسيا وحدها» إلى وضع «الجميع ضدنا».
في تكثيف شنغهاي
إذا أردنا تكثيف المسألة، يظهر لنا أن مستوى التوافق السياسي عالٍ جداً بين هذه الأطراف، وهم يشكلون وزناً اقتصادياً وبشرياً لا يستهان به أبداً على المستوى العالمي، إلى جانب أن المنظمة تبنت رسمياً مبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها الصين، وأعلنت دعمها في القمة، ولم يكتف المجتمعون بالتنديد بالسياسات والعقوبات الأحادية، بل وضعوا أطراً ملموساً لكيفية تجاوز ذلك، من خلال التبادل بالعملات المحلية، وزيادة دور عملة اليوان الإلكترونية، وأعلنوا عن إنشاء بنك تنموي خاص للمنظمة قادر على أداء دور في تمويل المشاريع ليكون إطاراً جديداً للتعاون في القطاع المالي والمصرفي إلى جانب الاتحاد المشترك بين بنوك دول شنغهاي.
ولكي تتضح الصورة أكثر، اعتمدت المنظمة استراتيجية شاملة بخطوات ملموسة تحت عنوان استراتيجية تنمية منظمة شنغهاي 2035 التي ستكون بمثابة خطة عمل ملزمة للدول الأعضاء، فضلاً عن طرح الصين لمبادرة الحوكمة العالمية (GGI) التي تعني فعلياً إنهاء الهيمنة الأمريكية بشكلٍ كامل، عبر إنشاء إطار جديد يكون مركزه القانون الدولي والأمم المتحدة بعد إصلاحها بالشكل المطلوب.
الحديث عن أهمية المنظمة ودورها اللاحق يطول، وليس من السهل الإحاطة به، لكن المنظمة باتت الآن إطاراً مكتمل الأركان، ويرى في نفسه نواة حقيقة لعالم جديد، بعد أن قدّم نموذجاً للتعايش السلمي، وحل الخلافات بين أطرافه، وإن كان المشاركون فيه دفنوا فعلياً محاولة التفرقة الأمريكية بينهم، فقد أكدوا أيضاً أنّهم يملكون الذراع العسكرية الكافية لحماية هذا المشروع، ففي حين ظلت السمة العامة سابقاً لـ «شنغهاي» المرتبطة بكونها منظمة أمنية، كانت بريكس إطاراً اقتصادياً، أما اليوم يمكن أن تتحول منظمة شنغهاي مع بنك التنمية الجديد والأطر الاقتصادية والمالية الأخرى، وإلى جانب التفاهمات الأمنية بين أطرافها، ووجود قوى نووية كبرى ضمن صفوفها لتكون جوهر عملية فرض العالم الجديد، وتتحول بريكس إلى إطار أوسع يثبت هذا المسعى، فالثالوث الأساسي لقيام هذا العالم «السياسي-الاقتصادي-العسكري» مع المنصة التقنية المتقدمة، والقاعدة الصناعية الأعظم في العالم، كلّها تعد الأساس المادي اللازم لتحقيق أهداف عظيمة، مثل: بناء نظام عالمي جديد، وهذا تحديداً ما شكّل صفعة حقيقية للولايات المتحدة التي ظهرت مصدومة أمام مشهد تجمّع فيه قادة دول عظيمة، وهم عاقدوا العزم للسير باتجاهٍ طال انتظاره.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1242