عرقلة «ألاسكا» ومقاومة تيار التاريخ الجارف

عرقلة «ألاسكا» ومقاومة تيار التاريخ الجارف

بعد أن سادت أجواء إيجابية قبيل انعقاد القمة الرئاسية الأمريكية الروسية في ألاسكا، يبدو أن العلاقات الثنائية تعود إلى حالة من الركود، وبشكلٍ متزامن بدخول الملف الأوكراني في موجة تصعيد جديدة، مع عودة تقارير تتحدث عن حُزم تسليح جديدة لأوكرانيا، لكن هذه المرة تتألف من سلاح أمريكي متطور على نفقة الأوروبيين، يُمكِن أن يُمكّن الجيش الأوكراني من تنفيذ هجمات أكثر في العمق الروسي!

أشارت آخر التقارير عن موافقة الولايات المتحدة على تزويد أوكرانيا بصواريخ ERAM «إرام» الهجومية بعيدة المدى، ويجري الحديث عن تسليم 3350 صاروخاً تتميز بانخفاض تكاليفها نسبياً مع مدى يتجاوز 460 كم، ما يمكن الجيش الأوكراني من ضرب العمق الروسي، فضلاً عن أن العدد المعلن يُمكن كييف من تكثيف ضرباتها وإغراق محتمل للدفعات الروسية.

بقاء أوكرانيا على المحك!

الخطوة الأمريكية-الأوروبية تظهر بوصفها نقلة تصعيدية في الصراع، ستقابل بكل تأكيد برد روسي مقابل، ما يعني مزيداً من الخسائر على جانبي الصراع، بينما يرى ترامب أن تطوير قدرات كييف النوعية من شأنه زيادة الضغط على موسكو للجلوس حول طاولة المفاوضات، لكن هذا التقدير لا ينسجم أبداً مع النظرة الروسية للصراع، فبالنسبة للرئيس الروسي لا يمكن النظر للشروط الروسية لإنهاء الصراع على أنّها قابلة للتفاوض، فهي الشكل الوحيد لإنهاء التهديد الحقيقي الذي تراه موسكو، وعلى هذا الأساس سيكون خيار استمرار القتال محسوماً، حتى لو عنى ذلك تكاليف إضافية على روسيا، ويكون الطرف الخاسر الأكبر هو أوكرانيا، التي خسرت حسب المصادر الروسية أكثر من مليون قتيل منذ بدء الحرب، وأشارت وسائل إعلام روسية أن تسريبات قراصنة من هيئة الأركان الأوكرانية، تحدثت عن خسائر بلغت 1.7 مليون قتيل، الأعداد التي ترفضها أوكرانيا وتعتبرها مزيفة تظل مؤشراً على حجم الصراع، وخصوصاً أن وزارة الدفاع الروسية أشارت في بداية 2025 أن الجيش الأوكراني يخسر 50 ألف مقاتل شهرياً، وفي السياق نفسه أشار الكولونيل الأمريكي المتقاعد دوجلاس ماكجريجور، أن القوات المسلحة الأوكرانية تخسر يومياً 300 شاحنة وسيارات بيك آب ودراجات نارية وحافلات صغيرة ومركبات رباعية الدفع ومركبات لوجستية أخرى، يضاف إليها ما بين 40 و50 وحدة من المركبات المدرعة الأكثر تكلفة والدبابات والعربات المدرعة وأنظمة الدفاع الجوي. هذه المؤشرات تؤكد أن طاقات أوكرانيا ومهما بلغت لن تكون كافية لاستمرار القتال، بل ستؤدي في نهاية المطاف لإنهاء مقومات الدولة الأوكرانية، التي ستنتهي مفتتة غير قادرة على البقاء.

إن استمرار القتال بهذا الشكل وتأخير الوصول إلى اتفاقية سلام شاملة هو في الدرجة الأولى نتيجة حتمية لاختلال التوازن المصطنع في القارة الأوروبية، ونتيجة لسياسات أمريكية استمرت لعقود في محاولات الإطباق على روسيا وحصارها، وهو ما لا يمكن تجاهله عند عرض الحرب في سياقها التاريخي الشامل، وبالرغم من ذلك، يحمل تأخير الاتفاق نتائج كارثية على أوكرانيا وكامل المعسكر الغربي، فإن الحرب في جوهرها محاولة للخروج من أزمة مركزية شاملة، وهي أيضاً جهد رجعي لوأد عالم جديد قيد التشكل، وهي لذلك محكومة بالفشل في نهاية المطاف، أو ستقود العالم إلى حربٍ نووية لا تبقي ولا تذر! ورغم أن هذا الخيار ظلّ بأذهان الكثيرين احتمالاً بعيداً، إلا أن الإصرار على كسر روسيا وهزيمتها في الحرب يجعل من الخيار النووي أقرب من أيّ وقتٍ مضى، خصوصاً أن حيازة هذا السلاح كانت دائماً ضمانة بوجه أي خطرٍ وجودي حقيقي.

وحدة الغرب والولايات المتحدة في خطر!

من جانبٍ آخر، وبعيداً عن التفاصيل العسكرية والميدانية للحرب، يطرح مجموعة من المفكرين سؤالاً منطقياً: هل إنهاء الحرب في مصلحة الولايات المتحدة؟ وهنا يبدو الانقسام واضحاً، فمن جهة لا يمكن إنكار أن إنهاءها وفقاً للشروط الروسية يعني هزيمة للولايات المتحدة، لكن الاستمرار بهذه الحرب ستكون له نتائج أكثر خطورة وأعمق، فإن خسارة الحرب ستعني بالضرورة إقراراً بعالمٍ جديد بعيد عن الاستئثار الأمريكي بالقرار الدولي، وسيفتح المجال واسعاً لقوى جديدة صاعدة لتسهم بشكل منطقي في إدارة شؤون هذا الكوكب، وإنهاء النهب الأمريكي الذي بات معيقاً للتطور البشرية، لكن وقف الحرب في الوقت نفسه سيكون بمثابة فرصة أخيرة للولايات المتحدة للحفاظ على نفسها موحدةً، وتفسح المجال لها للإسهام إلى جانب القوى الأخرى بما يتناسب مع وزنها الحقيقي، لأن المغامرة باستمرار الحرب لن تضاعف الخسائر الاقتصادية والعسكرية فحسب، بل ستضاعف الخسائر السياسية أيضاً، وستكون لها ارتدادات اجتماعية كبرى، في الولايات المتحدة وأوروبا.

من المستفيد من إغلاق الطريق أمام ألاسكا؟

ما سبق ليس طرحاً مقبولاً من قبل كل النخب الأمريكية، فالواقع يقول: إن إغلاق الطريق أمام التوافق وإلى جانب كونه إنكاراً للواقع القائم، هو أيضاً تعبيرٌ عن مصلحة لنخبٍ عالمية لم يعد من الممكن وضعها ضمن إطار الدولة الوطنية الواحدة، فإن كان الاستمرار بالحرب يهدد بتفكيك الاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة الأمريكية، ما يجعله يبدو خياراً بعيداً عن المنطق، ينبغي التذكير بأن أصحاب هذا الرأي الممثلين برؤوس أموال عابرة للحدود، لا يفكرون كثيراً بالحفاظ على هذه الكيانات بقدر ما يفكرون بالحفاظ على معدلات النهب التاريخية التي يحققونها، وهم بتعنتهم هذا مستعدون لزج الجميع في دوامة من الفوضى الشاملة، بهدف تأخير الاستحقاقات الواجبة.

هذه النخب، وإن كانت موجودة ضمن هيكلية النظام السياسي داخل الولايات المتحدة، فهذا لا يعني على الإطلاق أنّهم ممثلون لمصلحة الولايات المتحدة، بل ما يعنيهم منها هو قدرتها العسكرية الضاربة والترسانة الضخمة من الأسلحة، التي جرت مراكمتها، والتي من الممكن استخدامها في معركة كبرى ضد حركة التاريخ، وإن إدراك هذه الحقيقة بأبعادها لا يمكن أن يكون غائباً عن القوى الأخرى، فعندما ترى روسيا أن صراعاً دائراً بين تيارات داخل واشنطن، وأن جناحاً من الخصوم مصر على الاستمرار في القتال، حتى رغم تأكيد كل العسكريين الجديين أن انتصار أوكرانيا مسألة مستحيلة، سيكون من السهل حينها معرفة الخصوم الحقيقيين، ويكون التصدي لهم مستحيلاً ما لم تتحقق جبهة عالمية شاملة، تُسخر كل طاقاتها في المواجهة، وهو في الواقع الرابط الحقيقي الذي يجمع القوى الصاعدة، التي ترى أنّ بقاءها ورغم الخلافات البينية الكثيرة مرهون في بناء هذا التحالف وتدعيمه دائماً. وإن مواجهة كل خطوة تصعيدية جديدة يكون في تقريب هذه الدول من بعضها البعض، وهو فعلياً ما نراه، وهو الضامن الوحيد للجم قوى الظلام التي تقود العالم إلى معركة مدمّرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1241