قمّة الأسكا المرتقبة… وتشكيل العالم الجديد

قمّة الأسكا المرتقبة… وتشكيل العالم الجديد

غالباً ما تظهر التطورات السياسية الكبرى في لحظات لا يتوقعها كثيرون، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحدّث متبجّحاً في حملته الانتخابية عن «قدراته الخارقة» في حلّ المشاكل، وتعهّد بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، لكن وبدلاً من أن يخرج علينا في 21 كانون الثاني 2025 ليعلن الوصول إلى اتفاق، قضى ترامب 8 شهور دون تحقيق ذلك، وحين بدا أن الحل لا يزال بعيداً ظهرت أنباء مفاجئة عن قمة طارئة بين ترامب وبوتين في الأسكا.

كان مبعوث الرئيس الأمريكي وصديقه الشخصي ستيف ويتكوف أجرى لقاءاتٍ عدّة مع الجانب الروسي، والتقى الرئيس بوتين أكثر من مرة، لكن هذه الجهود لم تفض إلى أيّ نتيجة، وبدا كما لو أن ما تسعى إليه الولايات المتحدة ليس تماماً إنهاء الحرب، بل الخروج منها، وتوكيل دول أوروبية في تغذية نيرانها، ليبدو أن الولايات المتحدة هي الرابح الأكبر، ويُترك لروسيا والآخرين التنافس على المراكز المتبقية! سيناريو كهذا لم يكن من الممكن قبوله في موسكو، وكان الاستمرار بالحرب خيار روسيا الوحيد، وخصوصاً كونها الطرف المتقدّم بالمعنى العسكري، ولم يكتف الجيش الروسي بذلك، بل ركّز نيرانه بشكلٍ كثيف ونجحت القوات الروسية في السيطرة على أجزاء كبيرة من الأرض، وبشكل متسارع، بلغت في شهر آذار من العام الجاري 240 كم2، لكنّها ظلّت تزداد في الشهور التالية على التوالي، لتكون 379 كم2 في نيسان ثم 507 كم2 في أيار و588 كم2 في حزيران، ثم 713 كم2 في شهر تموز الفائت! ما يثبت أن القرار السياسي في روسيا كان واضحاً: «لا نيّة للتراجع» وفي ظل تقّدم كهذا سيكون مصير هذا الحرب محسوماً لصالح روسيا، وإن كل شهر تأخير لعقد مفاوضات جادة لن ينتج عنه إلا إضعاف الموقف الأمريكي والغربي أكثر. 

معنى قمّة الأسكا

ستمر بعض الأيام قبل أن تنعقد القمة المقررة، ويظل من الصعب الجزم بنتائجها، لكن بعض المسائل تبدو واضحة، فالمباحثات الأمريكية-الروسية جارية منذ أشهر، ولم يكن بالإمكان الحديث عن قمّة رئاسية بين البلدين نظراً لأن الخلافات القائمة لا تزال كثيرة، فجرت العادة أن تكون القمّة الرئاسية بمثابة تتويج لما جرى الاتفاق حوله عبر شبكات معقدة من المباحثات الشاملة، وجرى توصيف وضع المفاوضات من الجانب الروسي بأنّها تواجه «نقطة استعصاء» ولم يكن من الصعب تحديد كيف يفكّر كل طرف، وتحديداً روسيا التي حافظت على موقفٍ ثابتٍ، وهو تنازل أوكرانيا عن أراضي الدونباس بالكامل، وتطوى صفحة شبه جزيرة القرم ويُعترف بها أراضٍ روسية، كما تكون أوكرانيا ملزمة بحسب الاتفاق بألا تنضم إلى حلف الناتو، أو أي تحالف عسكري غربي يهدد روسيا، ولا تستخدم أراضيها بأي شكل لاستضافة أي قطع عسكرية، أو بنية تحتية يمكن أن تهدد موسكو، وتحافظ كييف على حيادها بعد أن تصبح دولة منزوعة السلاح.

الشروط الروسية لم تتغير، ربما تختلف بعض تفاصيلها، لكّن المفاوضين الروس ليس لديهم أيّ نيّة لتقديم تنازلات، ثم جاءت التأكيدات بعد لقاء جمع ويتكوف والرئيس بوتين يوم الأربعاء 6 آب الجاري، أن اختراقاً تمّ أخيراً، وبات يمكن من بعد ذلك عقد القمّة المنتظرة. ترامب أعطى مؤشرات حول إمكانية أن يكون هناك تبادل لأراضٍ بين روسيا وأوكرانيا، الذي يمكن فهمه أن تستغني روسيا عن الأراضي التي سيطرت عليها خارج منطقة الدونباس وتعود لسلطة كييف في مقابل المنطقة الروسية. وهو ما يبدو متسقاً مع تاريخ طويل بدأ قبل الحرب بعقود!

جذر تاريخي عميق

خريطة أوكرانيا التي عرفناها قبل الحرب لم تكن كذلك، بل شهدت الدولة مراحل تطور تاريخية شائكة، وكان تاريخ أوكرانيا السوفييتية بمثابة نقطة البداية، فالجمهورية التي باتت جزءاً من الاتحاد عام 1922 دخلت عصراً جديداً، وتحديداً بعد أن قرر الاتحاد السوفييتي ضم أراضي الدونباس إليها، وهي التي كانت أشبه بمنطقة صناعية غنية بالثروات،  فقبل ذلك كانت أوكرانيا بلداً زراعياً يتمتع بأراضٍ خصبة ما جعل الفلاحين طبقة أساسية، لكن الخطوة السوفييتية بإلحاق الدونباس غيّرت المعادلة، وبات للطبقة العاملة في أوكرانيا وزنٌ حاسم، وتحديداً مع توسّع هجرات العمال الروس إلى الدونباس التي أصبحت عصب الحياة الاقتصادية، ومكّنت هذه الخطوة من قيام الجمهورية بأركان اقتصادية مستقرة قادرة على تحقيق التنمية المطلوبة، وأسهمّت بشكل كبير في الحياة الاقتصادية السوفيتية، ثم «أهدى» خروتشوف عام 1954 شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا للتتحول بعد الانهيار إلى ثغرة خطيرة بالنسبة لروسيا الاتحادية، نظراً لموقع شبه الجزيرة الاستراتيجي، ودورها المحوري في البحرية الروسية، انهيار الاتحاد السوفييتي خلّف الكثير من القضايا العالقة، منها إقليم الدونباس الذي ظلّ يتبع لأوكرانيا بعد استقلالها.

كان يمكن الحفاظ على الوضع القائم فقط في حال استمرت العلاقات طيبة بين البلدين، لكن الصراع على أوكرانيا كان سمة المرحلة اللاحقة للانهيار وكان التيار القريب من موسكو حاضراً بقوّة في الحياة السياسية والاجتماعية، لكن انقلاب 2014 والأحداث التي تلته كانت بمثابة محاولة لقلب التوازنات في القارة الأوروبية بعكس المصلحة الروسية، وهو ما فرض على موسكو سلوكاً محدداً، وباتت أوكرانيا أشبه بخاصرة روسيا الهشة، التي يمكن إن جرى إهمالها أن تتحول إلى ثَغرٍ خطر يهدد روسيا، وقادر في ظروف محددة على تفجير تناقضات كبرى داخل الاتحاد الروسي. 

السيّاق التاريخي الموجز هذا يمكن أن يفسر إلى حد كبير كيف تعاطى الشعب الروسي مع الحرب، التي تحوّلت بنظر الغالبية إلى معركة أساسية في الدفاع عن النفس، ولم يكن بالإمكان تجاهل ذلك لا من قبل النظام الحالي أو أيّ نظامٍ آخر.

ماذا إن انتهت الحرب بالشروط الروسية؟

يبقى السؤال الكبير مطروحاً، فإن كانت محاولة سحب أوكرانيا إلى الكتلة الغربية بمواجهة روسيا تشكّل محاولة حقيقية لكسر التوازن العالمي، وضرب روسيا وتفكيكها عبر البوابة الأوكرانية، فإن إنهاء الحرب بالشروط الروسية يعني فشل المحاولة الأمريكية «الطموحة» ومن هنا يبدو مفيداً أن نعيد ترتيب بعض المسائل، ففي لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي كان عدد من المفكرين في العالم يدركون أن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يتسابقان باتجاه الانهيار، وأدى سقوط الاتحاد السوفييتي إلى تقديّم ترياقٍ مؤقت للولايات المتحدة، لا بوصفها قوّة عالمية فحسب، بل كونها رأس الحربة في النظام الرأسمالي العالمي، الذي استطاع نهب ثروات الجمهوريات المنفلتة من الاتحاد، ما مكّنه من تأخير الاستحقاق، ففي السنوات الخمسة الأولى بعد الانهيار قدّر صندوق النقد الدولي أن حجم الأموال التي نقلت إلى الخارج بلغت 200 مليار دولار! فيما يقدّر البنك الدولي الأموال المنهوبة «التي جرى نقلها إلى الخارج» خلال تسعينيات القرن الماضي بـ 500 مليار دولار، أما الباحث الاقتصادي الروسي سيرجي جلازييف فيقدر هذه الأموال بأكثر من 1 تريليون دولار من روسيا وحدها، بينما يصل الرقم إلى 2 تريليوني دولار، إذا ما حسبنا إجمالي النهب من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة.

حجم النهب التاريخي هذا وإلى جانب آثاره الاقتصادية والاجتماعية السياسية المدمرة تحوّل إلى داعم أساسي للنظام الرأسمالي العالمي، ومكّنه فعلياً من الصمود حتى اليوم، لكن هذا التمديد ظلّ محدوداً حتى بات المطلوب عملية تفتيت جديدة، ووضعت روسيا الاتحادية لذلك على قائمة الاستهداف.


فشل هذه المحاولة وإلى جانب كونه دليلاً جديداً على اختلال الميزان الدولي بغير الصالح الأمريكي والغربي، فإنه يبشر باشتداد الأزمة الرأسمالية عبر خنق النظام العالمي القائم، وحرمانه من الموارد اللازمة لبقائه، لذلك يكون طي الأزمة الأوكرانية وفرض الشروط الروسية لإنهاء الصراع بمثابة صافرة البدء الحقيقية لتفكيك النظام العالمي القائم، ما يفسح المجال أم البدائل في فرصة تاريخية، من هنا لا يمكن قراءة قمّة الأسكا في ضوء العلاقات الروسية-الأمريكية فحسب، بل هي في الواقع، وإن أنهت الحرب في أوكرانيا، تكون قد فتحت الآفاق، ودفعت العربة العالمية على السكة الصحيحة. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1238