12 يوماً… حربٌ خاطفة بتداعيات كبرى
حمل اليوم الثاني عشر للحرب بين إيران والكيان الصهيوني تطوراً مفاجئاً، وذلك بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي عن وقفٍ لإطلاق النار بين الطرفين 24 حزيران الجاري، وحاول تصوير نفسه «راعٍ للسلام»، متناسياً أن القاذفات الاستراتيجية الأمريكية كانت نفّذت قبل ساعات ضربات على مواقع نووية إيرانية، وأن بلاده كانت الرأس المدبر لهذه المغامرة الخطيرة، فضلاً عن أنّ الجيش الأمريكي قدّم كل أشكال المعونة الممكنة لـ «إسرائيل»!
دخل وقف إطلاق النار دخل حيّز التنفيذ بعد ساعات من إعلان دونالد ترامب، ومرّت هذه الساعات بحالة من الترقب، خصوصاً أن الصواريخ الإيرانية لم تتوقف خلالها، وأحدثت أضراراً كبيرة ومشاهد دمار في مدن «إسرائيل» أثبتت مجدداً هشاشة العدو.
ومع أن وقف إطلاق النار لا يزال سارياً إلا أن مؤشراتٍ كثيرة تؤكد أننا بعيدون كل البعد عن استقرار شامل في المنطقة.
حربٌ لم تحقق أهدافها
كنا عرضنا في «قاسيون» سابقاً الأهداف الحقيقية لهذه الحرب، فمن جانب الطرف المعتدي كان الهدف المعلن هو القضاء على البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، وفي العمق لم يكن من الصعب الاستنتاج أن المطلوب كان أكبر من ذلك، وهو تحديداً قلب نظام الحكم في إيران لا بغية استبداله بنظامٍ آخر فحسب، بل أملاً في تفتيت إيران وإنهاء وحدتها السياسية والجغرافية، وهو ما يستهدف روسيا والصين ودول الجنوب، إذ إن إنهاء إيران ودفعها للمحور المقابل من شأنه أن يتحوّل إلى عقبة كبرى أمام مشروع الشرق، الذي يحاول إيجاد تعبير سياسي عن وزنه الاقتصادي المتنامي، كما يشكل ضرب إيران نقلة إضافية في مشروع تفتيت المنطقة وإشعالها بمستوى أعلى من السابق، ويسمح بإطلاق يد الكيان الصهيوني في رقعة جغرافية واسعة بعد تحييد أهم خصومه الجديين.
من هنا يبدو وضوحاً، أن الكيان الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة لم يحققا أّياً من أهدافهما، فإيران أظهرت ثباتاً كبيراً في ساحة القتال رغماً عن الضربات الموجعة التي تلقتها، واستطاعت فرض مستوى متصاعداً من الضغط العسكري طوال أيام الحرب، ما جعل «إسرائيل» في حالة انكشاف استراتيجي غير مسبوق، وخصوصاً مع ظهور تقارير عن انخفاض متسارع في مخزونات الدفاع الجوي التي لن يكون تعويضها أمراً سهلاً، ومع ذلك فرض الرئيس الأمريكي وقفاً لإطلاق النار، ما طرح تساؤلاً عن النية الحقيقية منه. ويبدو أن الدرس الأول الذي تعلمته الولايات المتحدة كان ببساطة أن محاولة تحقيق الهدف عبر الاستهداف العسكري المباشر، أدى نتائج عكسية، فزاد من التلاحم الوطني الداخلي، الذي عبّر عن نفسه بأشكالٍ مختلفة، كان أبرزها موقف المعارضة الإيرانية الوطني، وأعطى النظام القائم زخماً سياسياً، وإن نجاح الخطة الأمريكية «الطموحة» لا يمكن تحقيقه في ظرفٍ كهذا، فحتى لو تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً بشكلٍ أكبر ستكون بمواجهة الشعب الإيراني الموحد، هذا فضلاً عن أن سقوط إيران كان مرفوضاً من قبل أطراف متعددة، والتي ستكون مستعدة لتقديم كلّ أشكال الدعم الممكنة ما يضاعف التكاليف مرات عديدة على الولايات المتحدة.
إنّهم محكومون بالحرب!
لكن المسألة الأساسية في فهم اللحظة الحالية، ترتبط في فهم أن خيار الحرب لم يكن ترفاً أمريكياً أو «إسرائيلياً» بل هو حاجة ملحة تُردّ إلى حجم الأزمة الداخلية، فبالنسبة للولايات المتحدة لا تبدو المجابهة العسكرية المباشرة والمفتوحة مع الصين وروسيا ممكنةً، ويكون البديل الوحيد عنها هو بإشعال حروبٍ متوسطة الحجم، تتحول نيرانها إلى تهديد حقيقي للأقطاب الصاعدة، وتؤخر في الوقت نفسه الاستحقاقات في بناء عالمٍ جديد ينهي النهب الذي تقوم به المراكز الغربية لدول الجنوب. أما بالنسبة للكيان، فالحرب مطلوبةٌ أيضاً، ولذلك نرى إصراراً على استمرارها منذ 7 أكتوبر 2023.
المسألة بالتأكيد أكبر من قلق نتنياهو من المحاكمة والسجن، بل وجود قناعة بأن «إسرائيل» في موقع ضعيفٍ جداً، وهي اليوم أمام خطرٍ وجودي حقيقي، وينبغي لضمان بقاء المشروع الصهيوني أن يقوم المدافعون عنه بتوجيه الضربات، وفي جميع الاتجاهات والجبهات كلّها، وإن إيقاف القتال ولو لساعة واحدة سيلحق ضرراً في المشروع ككل لن يكون إصلاحه ممكناً.
من هنا بالتحديد، لا يجب النظر إلى وقف إطلاق النار في إيران بوصفه الفصل الأخير، بل هو في أحسن الأحوال، معركة خسرت فيها «إسرائيل» وهم يعدون العدة لجولات جديدة أعنف وأكثر شراسة، لكن ونظراً لأن ساحة المعركة أكبر بكثير من إيران فإيقاف إطلاق النار على تلك الجبهة لا يعني أبداً إيقاف الحرب الشاملة التي تُشن على استقرار الشرق الأوسط.
عمل مركب ومتنوع
المرحلة التالية قد تكون مزيجاً من أدوات مختلفة، فيمكن أن تبدأ «إسرائيل» بالبحث عن الثغور الهشة بغية إحداث اختراقات مع الاستمرار في الضغط على الجبهات المتعددة، ففي إيران، قد نعود إلى الحرب الاستخباراتية التي كانت قائمة، مع زيادة الضغوط الاقتصادية وتأجيج التناقضات في الداخل، لخلق واقعٍ يسهل إنجاز المهمة المجمدة، وفي المناطق الأخرى لن يكون مستغرباً أن يتجدد القتال في لبنان، أو رفع درجات النشاط على الجبهة السورية، مع كب الزيت على النار التي لم تنطفئ بعد في الداخل السوري، ولا داعي لأن نذكر بأن الحرب في غزّة لا تزال مشتعلة، وكذلك الأمر بالنسبة للضغط على مصر والسعودية.
إن الاعتراف بأن الحرب لم تنتهِ بعد، يفرض على كافة المتضررين منها الاستعداد لما هو أسوأ، وتحصين جبهاتهم الداخلية من جهة، وتعزيز التفاهمات الجماعية في الإقليم، التي أثبتت أنّها عقبة أساسية أمام تحقيق المشروع الأمريكي-الصهيوني، فإن إدراك أن المستهدف ليس بلداً أو نظاماً بعينه، يفرض على الجميع التسامي عن الخصومات والخلافات الثنائية، والبحث عن الشكل الأمثل للتصدي للحملة الخطرة التي تستهدفهم، ويمكن على هذا الأساس أن نقول: إن الحرب الأخيرة، كانت اختباراً جديداً لمدى متانة هذه الرابطة الناشئة، فالموقف السياسي العام للدول الأساسية في الإقليم انتقل إلى موقع متقدّم أكثر، وربما كان الاستهداف الإيراني للقاعدة الأمريكية في قطر واحدةً من اللحظات الأصعب، إذ كان يمكن لتطور كهذا أن يوتّر العلاقات مع الخليج ويدفعها بشكلٍ موضوعي إلى الخلف، لكن هذا لم يحدث، فمن جهة ظل التنسيق الإيراني الخليجي قائماً، ما خفف من حدة ردود الفعل، بل ظهر رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق الأمير تركي الفيصل في مقالٍ على موقع «ذا ناشيونال» الإماراتي، في يوم الخميس 26 حزيران قال فيه: «لو كنا في عالم يسوده العدل لرأينا قنابل قاذفات [بي-2] الأمريكية تمطر ديمونا النووي الإسرائيلي ومواقع أخرى بدلاً من إيران»، وانتقد بشدّة السلوك «الإسرائيلي» والأمريكي، بل وهاجم الفوضى التي فرضتها الولايات المتحدة والغرب على العالم، وذكّر قائلاً: «نحن في العالم العربي لسنا بمنأى عن هذا، فموقفنا المبدئي من هذه الصراعات مثال ساطعٌ على ما يجب على الدول والقادة والأمم فعله».
تركي الفيصل يُعبّر عن تيار وازن داخل السعودية، ومنطقة الشرق الأوسط، التيار الذي يدرك خطورة المواجهة، ويرى في توحيد جهود المنطقة ضرورة وجودية، ولذلك يمكننا القول: إننا نملك بالفعل العناصر والمقدرات اللازمة للتصدي لهذه الهجمة، فما سبق هو حالة لم نشهدها منذ عقودٍ مضت، وهي تستند إلى مزاجٍ شعبيٍ كبير داعم لهذا التوجه، والأهم، أنّنا موجودون بشكلٍ موضوعي في خندق بقدرات متنامية وغطاء دولي يعبّر عن ذاته بشكلٍ غير مسبوق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1232