تذكّروا: «إسرائيل» قد تربح المعارك ومع ذلك تخسر الحرب!
ترافقت الصدامات العسكرية- وتحديداً ذات الطابع الاستراتيجي منها- بدرجةٍ من التضليل والخداع تاريخياً، فعند الحرب يظلّ التنبؤ بالخطوات التالية للأطراف الفاعلة مسألةً بالغة الصعوبة، لكن ما نعرفه يقيناً هو أن الاحتمالات مفتوحة في كل الاتجاهات، وهناك مؤشرات تدعم سيناريوهات متناقضة، لكن ذلك لا يُلغِ أهمية تقدير مواقف الأطراف المختلفة، فبغض النظر عن شكل تطور الأحداث، تظل أمامنا حقائق ثابتة لن تغيرها سخونة المشهد.
تستمر حتى اللحظة واحدة من أخطر المواجهات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، فبعد أن بدأت «إسرائيل» عدواناً مباغتاً على إيران في 13 حزيران الجاري، أخذت الجمهورية الإسلامية زمام المبادرة بعد ساعاتٍ قليلةٍ، وتنفّذ حتى اللحظة هجوماً واسعاً باستخدام صواريخ بالستية متطورة وصواريخ فرط صوتية إلى جانب طائرات مسيّرة، نجحت من خلال ذلك في تحويل مدن «إسرائيل» إلى أهداف سهلة، حتى باتت مشاهد الدمار فيها جزءاً من المشهد اليومي، ولم يُغير الدخول الأمريكي المباشر اليوم في 22 حزيران بعد من الإحداثيات العامة، وحققت ضربات جيش الاحتلال أضراراً كبيرة بلا شك، هذا ولم يتضح بعد حجم الضرر الناتج عن الضربة الأمريكية الأخيرة، لكن كلّ ذلك لن يغير قاعدة الحرب الأساسية وفقاً لأهواء الكيان، وهو ما سوف نناقشه في الختام.
السيناريو الأخطر
ظل الرأي السائد يقول: إن التدخل الأمريكي ستكون له تأثيرات دراماتيكية على المشهد، لكن الضربة التي استخدمت فيها الولايات المتحدة القاذفات الاستراتيجية B2 والقنابل الخارقة للتحصينات لم تلحق الضرر المتوقع، ويرد ذلك إما لكون الضربة لم تكن جديّة ومالت إلى الاستعراض العسكري، أو لكون إيران استعدت جيداً لسيناريو كهذا، ونقلت المخزون الاستراتيجي من اليورانيوم، وربما الآلاف من أجهزة الطرد المركزي خارج المنشآت المعروفة، مع ذلك لا يمكن الإطمئان للخطوة الأمريكية اللاحقة، وخصوصاً أن واشنطن أثبتت خلال الشهر الماضي أنّها طرف غير مؤتمن، يمكن أن ينتقل لأعمال عسكرية حتى في ظل انعقاد مفاوضات.
كما يظل احتمال استهداف القيادة الإيرانية العليا الممثلة بالمرشد علي الخامنئي الذي أعد البلاد لسيناريو مشابه، لكن لدى إيران فرصة كبيرة لتوجيه ضربة إلى المصالح الأمريكية المنتشرة في المنطقة، وتحديداً القواعد العسكرية والقطع البحرية في الخليج والبحر الأحمر إن أرادت ذلك، ولن يكون مستبعداً إذا ما تورّطت واشنطن بشكل أكبر في هذا الصراع أن تخسر حاملة أو أكثر من حاملات الطائرات الـ 11 التي تملكها، والتي كانت دائماً «درّة التاج» في البحرية الأمريكية، وجزءاً من الأصول الاستراتيجية التي اعتمدت عليها «الإمبراطورية المحيطة».
إذا ما أحدثت واشنطن فارقاً نوعياً لصالح الكيان لا يمكن إلا أن يُفهم كمحاولة جديّة لقلب الموازين في كامل الشرق الأوسط لصالح الكتلة الغربية، وهو ما لا يمكن أن يمر بهذه البساطة، وخصوصاً أن الصين وروسيا ستكونان المستهدفتان الرئيسيتان إلى جانب تهديد مباشر للدول الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط ووسط آسيا، ما يعني بالضرورة أن إيران لن تقاتل وحدها، وستحصل بأقل تقدير على دعم متواصل عبر جسر جوي وبري، وفي هذا السياق ثبّت نائب ثبّت وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف هذا الاتجاه، عندما خرج محذّراً الولايات المتحدة لا من التدخل في الصراع فحسب، بل من مجرد التفكير في ذلك، ومع التنسيق العالي الروسي- الصيني يمكن القول: إن القرار الأمريكي لن يكون سهلاً على الإطلاق.
تلقى ترامب سؤالاً منذ أيام عن احتمالية دخول بلاده الحرب فأجاب: «قد أفعل ذلك وقد لا أفعل، لا أحد يعلم ما سأقوم به» ويبدو أن الظرف المعقد والحساس الحالي، دفع الرئيس لاتخاذ قرار بين هذا وذاك، أو على الأقل هذا ما يبدو حتى اللحظة.
في الشرق تبدو الأهداف واضحة!
إن أي نظرة سريعة لمواقف الدول في منطقة الشرق، تكشف أن الأطراف المؤثرة تعلم نوايا الكيان الخبيثة، وهم لذلك يصطفون في جبهة موحدة متجاوزين المسائل الخلافية مع إيران، فمواقف السعودية وتركيا ومصر وباكستان لا تزال ثابتةً، بل ظهر من خلال الدورة الحادية والخمسين لمجلس وزراء الخارجية في منظمة التعاون الإسلامي التي عقدت في أنقرة من 20 إلى 21 حزيران الحالي، أن الدول الأعضاء الـ57 يتشاركون الموقف، وهي الكتلة الثانية من حيث الحجم بعد الأمم المتحدة، وتزداد حدّة المواقف تحديداً لدى الدول القريبة من إيران، فبالنسبة لهم لا يمكن النظر إلى العدوان الصهيوني إلا بوصفه محاولة حقيقية لزعزعة الاستقرار في مساحة واسعة، وهو بلا شك خطوة ضمن استراتيجية صهيونية أوسع، تهدف لإعادة رسم الشرق الأوسط في إطار «مشروع الشرق الأوسط الجديد» الذي تعمل عليه «إسرائيل» بشكلٍ جدي.
في هذا الخصوص كان موقف الرئيس التركي خلال دورة منظمة التعاون شديد اللهجة، فمن جهة قارب أردوغان بين ما تفعله «إسرائيل» وما فعله هتلر قبل 90 عاماً، واعتبر أن خطوات الكيان العدوانية في المنطقة تتزامن مع الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس-بيكو مؤكداً أن تركيا «لن تسمح بإقامة نظام سايكس بيكو جديد في منطقتنا تُرسم حدودُه بالدماء».
التقارب الكبير، وتحديداً حول الموقف المعادي للكيان الصهيوني ومشاريعه في المنطقة، ربما كان السبب وراء خروج نتنياهو في تصريحٍ وقح لقناة «كان» قائلاً: «بعد قيام [إسرائيل]، واجهنا عالماً عربياً موحداً، ونجحنا في تفريقه تدريجياً» كما لو أنّه يحاول عبر ضبابٍ من الكذب حجب واقع جديد مختلف، تجري فيه تفاهمات إقليمية واسعة تتحول تدريجياً إلى عائق حقيقي بوجه مشروع «الشرق الأوسط الجديد» وتحديداً كونها مدعومة من قوى تعمل على بناء عالم مختلف عن التفتيت والتقسيم.
الحرب تقاس بأهدافها!
بالعودة إلى نقطة البداية التي انطلقنا منها، الحرب، أيُّ حرب، لا تقاس أبداً بحجم التدمير الذي يستطيع طرف إلحاقه بطرفٍ آخر، بل تقاس فعلياً بالقدرة على تحقيق الأهداف السياسية منها، وهناك دائماً أسبابٌ معلنة وأخرى مخبأة لا نسمعها من على المنابر الإعلامية، وبالنسبة لـ «إسرائيل» تكمن الأهداف المعلنة بإنهاء المشروع النووي الإيراني والقدرات الصاروخية الإيرانية، وهذا ما تُثبت وقائع الحرب اليومية استحالته في الإحداثيات الحالية، وهو يشبه إلى حد كبير فكرة إنهاء حماس في غزّة، أو إنهاء حزب الله في لبنان، أو إنهاء «أنصار الله» في اليمن، فهذه كلّها أهداف لم تتحقق، وإن كانت «إسرائيل» مثلاً شنّت حرباً منذ أكتوبر 2023 على القطاع، فهي غارقة حتى اللحظة، وتتلقى ضربات من المقاومة، بل وتُستهدف مستوطنات غلاف غزّة بالصواريخ! الدمار في القطاع غير مسبوق، وحجم الإجرام أكبر من أن يوصف، ومع ذلك لم ينجح جيش الاحتلال في «القضاء على حماس»، هذا المشهد مرجّح أن يستمر في الحرب الحالية إن لم تتوقف، لكن بفارق نوعي في قدرة طهران على إلحاق ضررٍ لم تشهده «إسرائيل» في تاريخها.
هناك أهدافٌ غير معلنة كما أشرنا، هي في إطارها الضيق، استهداف إيران كدولة موحدة، عبر محاولة إسقاط النظام فيها ودفعها للتفتت، وهي خطوة باتجاه استراتيجية إقليمية شاملة، هذا الهدف الخطير ممكن الحدوث نظرياً، لكنّه معاكس تماماً لاتجاه دولي عام، ومعاكس أيضاً للاتجاه الإقليمي الموحد في الشرق الذي سبق أن أشرنا إليه.
انتهاء هذه الحرب دون تحقيق هذه الأهداف يعني هزيمة استراتيجية لـ «إسرائيل» والولايات المتحدة من خلفها، فلطالما حذّر المحللون الاستراتيجيون في الكيان من أن: «[إسرائيل] يمكن أن تربح كلّ المعارك، ومع ذلك تخسر الحرب في النهاية» وهذا هو الاحتمال المرجّح، وما أن يحصل حتى نكون اقتربنا أكثر من أيّ وقتٍ مضى من إنهاء المشروع الصهيوني في المنطقة، وانفتحت الآفاق أمام عصرٍ جديد تعود فيه شعوب الشرق إلى إدراك وحدة المصير والمصلحة كما أدركتها من قبل لقرون!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1231