أرمينيا بين مسارين.. إحداهما «أوكرانيا» جديدة

أرمينيا بين مسارين.. إحداهما «أوكرانيا» جديدة

شهدت العلاقات التركية– الأرمنية تطوراً هاماً يوم الـ 20 من حزيران الجاري، حيث قام رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان بزيارة تاريخية لمدينة إسطنبول التركية والتقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهذه الزيارة الرسمية الأولى من أرمينيا لتركيا منذ فترة الحرب الباردة، وتشكل خطوة هامة باتجاه تطبيع العلاقات بين البلدين، ومن جهة أخرى تخفف من حدة التوترات في منطقة جنوب القوقاز، بالرغم من أن أرمينيا لا تزال تطمح للرعاية الأوروبية.

تعود الخلافات التركية الأرمينية الأخيرة– «ما بعد موضوعة الإبادة الأرمنية»- للفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، وأعادت فتح مسألة الخلافات الحدودية بين الدولتين، حيث أن الحدود الحالية تعود لمعاهدة قارص 1921، وصادقت عليها روسيا وتركيا، والأخيرة كانت ولا تزال تطالب يريفان باستمرار بالاعتراف بالحدود الحالية كحدود دائمة ونهائية، بينما يشكك بها بعض المسؤولين الأرمنيين، فيذكر أنه في 2013 صرح المدعي العام الأرمني آغفان هوفسبيان أن على جمهورية أرمينيا استعادة أراضيها المفقودة، مشككاً بقانونية الحدود الحالية.
وعلى المقلب الآخر، كان إقليم ناغورني قره باغ، وخلافاته الحدودية مع أذربيجان، عاملاً مضافاً لتوتر العلاقات الأرمينية التركية، حيث كانت الأخيرة تدعم أذربيجان بشكل واضح وحاسم وتراها حليفاً و«شعباً واحداً بدولتين».
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لا توجد علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين، كما أن الحدود بينهما مغلقة تماماً، وقد حافظت القوات والقواعد العسكرية الروسية الموجودة في أرمينيا على توازن محدد في المنطقة، ومن أهم تأثيرات هذا التوازن عدم وقوع صدام عسكري واسع.

في أواخر عام 2021، وبعد مواجهة عسكرية أذرية– أرمينية في قره باغ عبر تخريب غربي مفتعل، استطاعت الدبلوماسية التركية– الأذرية– الروسية الحدّ من توسعها ووقفها، ثم بدأت مرحلة جديدة من جهود التطبيع بين يريفان وأنقرة، حيث عيّن البلدان مبعوثين خاصين لبعضهما بعض لمناقشة المسائل الخلافية دون شروط مسبقة.
وفي شهر آذار من العام الجاري أعلنت أذربيجان وأرمينيا التوصل لاتفاق سلام، مما أعطى دفعاً باتجاه تحسين العلاقات الأرمينية مع تركيا، وصولاً للاجتماع الأخير بين الرئيسين.

العقدة الأرمينية

إن المشكلة في جنوب القوقاز شديدة التعقيد إثر تداخل العديد من العوامل التاريخية والمعاصرة المؤثرة على كل بلد من بلدانه، وهي العوامل التي حال التدخل الأمريكي والأوروبي في المنطقة دون حلها على مرّ السنين، فكانت مسألة «الإبادة» أداة ضغط سياسية يجري استغلالها عبر المعارضة الأرمنية في الشتات، وبالمثل منها ما يتعلق بالمسألة الحدودية مع تركيا وفي قره باغ، لتكون هذه العوامل صاعقاً جاهزاً للتفجير بيد الغربيين، وقد برز هذا الأمر بشكل أكثر وضوحاً خلال المواجهة العسكرية الأخيرة التي جرت في قره باغ، والتي هدفت لضرب علاقات أذربيجان وتركيا وأرمينيا وروسيا بعضها ببعض بما فيها عسكرياً، وسعت عبرها للضغط على الحكومة الأرمينية للتجاوب مع أوروبا، أو التهديد بفوضى داخلية شهدت أرمينيا خلالها موجة احتجاجات واسعة ضد الحكومة أنذرت بانهيارها.

لتبدأ يريفان بالفعل بالتقرب من الأوروبيين، وصولاً لموافقة البرلمان الأرميني في شهر آذار الماضي 2025 على الانضمام للاتحاد الأوروبي من حيث المبدأ، رغم عدم وجود دعوة من الاتحاد بذلك، وقد علق المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف: «إطلاق عملية انضمام أرمينيا للاتحاد الأوروبي هو حق سيادي ليريفان، لكن الأفضل لأرمينيا أن تكون عضوة بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي» باعتباره مكانها الطبيعي نظراً لموقعها الجغرافي على الأقل.

بينما علق رئيس حركة «أرمينيا الأم» اندرنيك تيفانيان أن الغرب يقود أرمينيا على طريق أوكرانيا، محاولاً استخدام الجمهورية ضد روسيا وإيران.

لكن رغم هذا التوجه بالإطار السياسي/الإعلامي، تأتي الخطوات العملية السابقة باتفاق السلام مع أذربيجان، والزيارة لاسطنبول لتحسين العلاقات مع تركيا، بما يعنيه نزع فتيل تفجير هام، وفتح إمكانية حلحلة الملفات الخلافية بين دول الإقليم عموماً، ومن قِبلهم، دون تدخلات غربية، وتحمل الخطوة بُعداً إضافياً مهماً، وذلك كونها أتت متزامنة مع التطورات الخطيرة في إيران، فبالنسبة لأنقرة كانت غالباً ما تلجأ للدبلوماسية للتقليل من الآثار الخطرة المحتملة والاستعداد للسيناريوهات المتوقعة للحرب الدائرة بين «إسرائيل» وإيران.

ومن ذلك يتبين وجود مسارين متعارضين يجري دفع أرمينيا باتجاه أحدهما: التوجه غرباً واستخدامها كـ «أوكرانيا» جديدة بالفعل ومصدراً للتوتر، أو تعاونها مع دول الإقليم وحلّ الخلافات دبلوماسياً، وصولاً لتطبيع كامل للعلاقات بينها وبين محيطها والتوجه شرقاً... وما يُحدد أيّ من هذه المسارات ستمضي فيه فعلياً، هو العامل الداخلي لأرمينيا، والذي تشير استطلاعات الرأي فيه أن 70% من الأرمنيين يدعمون جهود التطبيع مع تركيا، رغم التحفظ على الجانب العاطفي المرتبط بالمشكلات التاريخية بين البلدين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1231