صدمة وارتباك… الولايات المتحدة تُعلن عن أحدث خساراتها
تشهد سوق النقل البحري صدمة كبيرة بعد إعلان الولايات المتحدة نيتها فرض رسوم كبيرة على السفن الصينية التي تنقل البضائع إلى الموانئ الأمريكية، وبالرغم من أن الصورة لم تتضح بعد، إلا أنّها تعكس محاولة أمريكية متأخرة جداً للتأثير على قطاع بناء السفن والنقل البحري، بعد أن حسم المشهد لصالح الصين بدرجة كبيرة.
آثار الخطوات الأمريكية هذه ستكون كارثية على الاقتصاد الأمريكي، ولا شك أنّها ستفرض واقعاً جديداً على طرق نقل البحري وسلاسل التوريد العالمية، وستجبر كل اللاعبين الدوليين على إعادة النظر بالكثير من المسائل الحيوية، لكنها في الوقت نفسه ستلحق ضرراً بالولايات المتحدة التي ترتبط مع العالم عبر شبكة من الطرق البحرية، وتاريخ طويل من السيطرة المباشرة وغير المباشرة على غالبية المضائق والمعابر البحرية التقليدية.
ما الذي جرى؟
تعتزم الولايات المتحدة فرض جمارك على السفن الصينية التي تكون وجهتها الأخيرة المرافئ الأمريكية، ويجري الحديث عن رسوم تصل في الحدود الدنيا إلى 1.5 مليون دولار، إذا كانت السفينة صينية الصنع، بينما قد تصل إلى 3.5 مليون دولار لكل زيارة ميناء إذا كانت السفينة صينية الصنع تشغلها شركة صينية، هذه الأرقام يمكن أن تثقل كاهل شركات النقل البحري والأطراف الأمريكية المستوردة بدرجة كبيرة، وتحديداً بالنسبة للشحنات التي تنقل بضائع رخيصة الثمن، بينما من المتوقع أن تكون شحنات النفط مثلاً أكثر قابلية لتغطية الزيادات المرتقبة، ولكن بجميع الحالات ستؤدي هذه الخطوة إلى زيادة كبيرة في الأسعار، وهناك شكوك جدية حول مدى فاعلية هذا الإجراء في تنشيط صناعة السفن الأمريكية، التي باتت تعتبر خارج المنافسة ضمن الصورة الحالية لهذه الصناعة.
ولإثبات ذلك، يمكننا عرض بعض الأرقام الصادمة المرتبطة بهذه المسألة، إذ تسيطر الصين اليوم على 50% من صناعة السفن العالمية و95% من صناعة حاويات الشحن العالمية، وتبدو هذه الأرقام منطقية إذا ما نظرنا إلى أن الولايات المتحدة التي تمتلك اليوم 4 أحواض بناء سفن عامة نشطة، في مقابل 35 موقعاً لبناء السفن مرتبطاً بالمشاريع العسكرية أو الأمن القومي في الصين، وهناك 307 أحواض بناء سفن في الصين تعمل بتوجيهات من الدولة بشكل أو آخر، ما يجعل قدرة الصين أكبر بحوالي 232 مرة من قدرات الولايات المتحدة، وذلك وفقاً لمكتب الاستخبارات البحرية الأمريكي.
وإذا ما نظرنا إلى حجم التسارع في نمو هذه الصناعة داخل الصين، يكفي أن نذكّر بأن الأخيرة بنت في 2024 سفناً تجارية أكثر من إجمالي السفن التي بنتها الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية! وقامت الصين ببيع 75% من إنتاجها الضخم لشركات أجنبية.
تحديات كبيرة في الداخل
ترى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنّها مضطرة لاتخاذ إجراءات سريعة لتدارك الموقف، لكن بالنظر إلى مجمل الإجراءات التي يجري اتخاذها، وتحديداً في ميدان الرسوم الجمركية، أن تأثير ذلك على تنشيط الصناعة المحلية يظل وارداً في إطار نظري وشكلي إلى حد كبير، فالصناعات اليوم ترتبط بسلاسل توريد معقدة لا يمكن توطينها داخل الولايات المتحدة بناءاً على الأمنيات فقط، فصناعة السفن وفضلاً عن البنية التحتية التي تحتاجها، والتي لم تعد متوفرة في الولايات المتحدة، فهي بحاجة أيضاً إلى صناعات رديفة، وتحديداً في مجالات الحديد والصلب، لكن واقع هذه الصناعات في الولايات المتحدة يشهد انحساراً كبيراً منذ أكثر من 25 عاماً، ما يعني أن خيارات شركات الشحن لشراء السفن مستقبلاً من موردين غير الصين ستكون بعيدة المنال، هذا فضلاً عن الأسطول الذي يعمل اليوم على طرق النقل البحري، والذي تشكل حصة الصين منه سواء من حيث الملكية أو التصنيع الغالبية العظمى.
في واقع قاتم كهذا ستكون الشركات الأمريكية مضطرة في المدى المنظور إما لدفع هذه الرسوم الباهظة، أو بالبحث عن موانئ أخرى غير الأمريكية، ما سينعكس سلباً على إيرادات الموانئ الأمريكية، وسيجد المستوردون أنفسهم مضطرين مثلاً للاعتماد على موانئ في البلدان المجاورة، مثل: كندا أو المكسيك، ثم نقل هذه البضائع عبر طرق برية ليست مؤهلة في هذه اللحظة لطفرة بهذا الحجم، وهذا سيزيد أيضاً من تكاليف الشحن، والمدة اللازمة لنقل البضائع التي تعتمد عليها سوق الاستهلاك الأمريكية بشكل كبير، ولا داعي لذكر آثار كل ذلك على المستهلك الأمريكي الذي سيبدأ بخسارة قدرته الشرائية بشكل متسارع في حال استمر النهج الأمريكي الحالي.
فهم أعمق للصورة
في حديث لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قال: إن بلاده تحتاج للبحث عن بدائل للسفن الصينية، وأضاف: إن الولايات المتحدة تحاول خلق سوق وطلب على بدائل لتلك السفن، واعترف الوزير في حديثه، بأن بلاده «ارتكبت خطأً فادحاً بتقليص تصنيع السفن وانتقاله لبلدان أخرى»، ونبّه روبيو إلى أن «الصين لن تبني لنا سفناً إذا وقعنا في مشكلة» في إشارة ضمنية إلى احتمالات اندلاع مواجهات بين البلدين.
فمن الناحية العسكرية، تملك الصين الآن 234 سفينة حربية في مقابل 219 سفينة للبحرية الأمريكية، وبالرغم من الفوارق النوعية والتشغيلية التي يتمتع بها الأسطول الأمريكي، إلا أن الصين من المتوقع أن تصل إلى 425 سفينة في حلول 2030 بالمقارنة مع توقعات بأن يصل الأسطول الأمريكي إلى 300 سفينة فقط، مع الأخذ بعين الاعتبار التطور الكبير الذي يشهده قطاع الصناعات العسكرية الصينية.
ربما تكون الطامة الكبرى بالنسبة للولايات المتحدة ترتبط بكونها دولة محيطية تعتمد كلياً على الطرق البحرية والأسطول البحري التجاري والعسكري، وهو ما يفسر المسعى الأمريكي ومن قبلها الدول الاستعمارية الأوروبية للسيطرة على الطرق والمضائق البحرية، والتي تقدر نسبة السيطرة الأمريكية عليها بما يتجاوز 70%، أما اليوم تبدو الصورة قاتمة بخسارة الولايات المتحدة العصب المادي الأساسي الذي ضمن لها دورها العالمي السابق، وهي بذلك أمام خطر وجودي حقيقي، لا يرتبط فقط بإمكانية خسارتها للهيمنة على المسرح العالمي، بل أيضاً بتأمين احتياجاتها من العالم الخارجي، فإنهاء الهيمنة الأمريكية والغربية على صناعة السفن يعطي ميزات كبرى للدول الصاعدة الأخرى، التي ستكون قادرة على إعادة صياغة الشروط الأمريكية في كثير من الميادين، وينقل الولايات المتحدة إلى موقع مختلف كلياً، وهو ما يفسر الاضطراب في صفوف السياسيين الأمريكان، ويدفعهم لاتخاذ إجراءات قاصرة في ظل بدائل شحيحة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1220