الانكفاء لا يعني الاستسلام!

الانكفاء لا يعني الاستسلام!

الأمريكان يتراجعون! ويظهر وضوحاً أمام الجميع أنهم يعملون اليوم على ترتيبات جديدة وتشمل فعلياً عدداً كبيراً من الملفات من الأمريكيتين إلى أفريقيا، وفي آسيا وأوروبا، وإن كانت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعبّر اليوم عن هذا التوجّه، فهي بالتأكيد لا تملك خياراً آخر، فالدولة العظمى التي أدّت دوراً محورياً في العالم خلال عقود مضت لم تعد قادرة على تحمّل تكاليف هذا الدور، لكن ذلك لا يعني أنّها رفعت الراية البيضاء!

إذا راقبنا السلوك الأمريكي في الملفات الساخنة، يبدو أن إدارة ترامب تحاول الوصول إلى توافقات عبر وسائل مختلفة عن الحرب، لكنّ سلوكها في الوقت نفسه يعتمد فعلياً على استثمارات ضخمة جرى ضخها لعقود في بؤر التوتر، وهي لذلك لا تزال تراهن على تفجير صواعق بأقل تكلفة ممكنة، لكن نجاحها في تحقيق أهدافها الخبيثة يرتبط لا في رغبتها فقط... بل بشكلٍ حاسم بأوزان القوى التي تعمل على الضفة المقابلة.

في أوكرانيا

مع أن الخطاب الأمريكي العام يميل إلى ضرورة إيقاف الحرب في أوكرانيا، لكن إذا ما نظرنا إلى السلوك الأمريكي منذ تفجر الأزمة هناك، وحتى اللحظة كان من الواضح أن الهدف العميق هو في تحويل أوكرانيا إلى بؤرة توتر على خاصرة روسيا، وإن كان الشكل الساخن لهذا الصراع يميل نحو التهدئة، لكن ذلك لا يعني أن أوكرانيا ستكون مستقرة في الأمد القريب، بل إن الخطة الأمريكية الحالية تركز على التراجع في الانخراط الأمريكي المباشر، وتحميل كل من روسيا والاتحاد الأوروبي المشاكل التي ستنتج عن أوكرانيا كلها، حتى وإن هدأت الجبهة، فإعادة إعمار أوكرانيا وتأمين مستقبل لملايين الأوكرانيين، ومنع تحويلهم إلى برميل بارود في وسط أوروبا ستكون مهمة شاقة ومكلفة للغاية، وهو ما يدفعنا للاستنتاج، أن ما يفعله ترامب اليوم لا يتعدى كونه مرحلة من خطة واحدة، والخلاف بينه وبين الإدارة السابقة كان يرتبط إلى حد كبير بمسألتين، الأولى: هي حجم الدور والتدخل الأمريكي، أما المسألة الثانية: هي الوقت الملائم للانتقال إلى المرحلة الثانية التي بدأت تظهر ملامحها اليوم.

في الشرق الأوسط

إن قررت واشنطن فعلاً ترك منطقة الشرق، وسحبت قواتها من العراق وسورية أو حتى من الخليج، فذلك يعني ترك المنطقة مع عدد كبير من المشاكل، وتحويلها كلّها إلى مشاكل الآخرين! أي أن دول المنطقة الأساسية ومن خلفها روسيا والصين والقوى الصاعدة الأخرى ستكون مضطرة لحل هذه المشاكل كلها، وتأمين الموارد اللازمة لإعادة الإعمار لا في سورية وحدها... بل أيضاً في الدول التي دُمّرت ولم يجر إعادة إعمارها فعلاً، مثل: العراق ولبنان! فتجاهل حل هذه المشكلات الكبرى يعني بشكل أو آخر ترك الاحتمالات لتفجيرات لاحقة، هذا فضلاً عن أن الأزمات السياسية في الإقليم لم تحل بعد، وتحتاج إلى عمل سياسي جدي لحلّها، ولن ينتهي بين ليلة وضحاها، ذلك دون الحاجة للتذكير بمشكلة المشاكل في فلسطين المحتلة، التي تحتاج تظافر جهود كبيرة لكبح الكيان المسعور.
إن الإقرار بالدور الأمريكي التخريبي، والتذكير بأن الانكفاء لا يعني بأي شكل من الأشكال استسلام الولايات المتحدة، لا يقصد منه نشر حالة من التشاؤم بل على العكس، فإدراك حجم وطبيعة المهام الماثلة أمامنا هو خطوة أولى لحلّها ومجابهتها، فالانكفاء مرحلة مفروضة، وهي بالضرورة محدودة الآجال، ومرتبطة بطبيعة الأزمة العميقة التي تعيشها الولايات المتحدة، أي أنّها تأتي من موقع ضعف لا من موقع قوّة كما يظن البعض، ونجاح هذه الاستراتيجية محكوم كما أشرنا بحجم ودور الخصوم الذين يعلمون جيداً الاستراتيجية الأمريكية التي يجابهونها.

عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان كانت تأمل أن تخلق حالة من الفراغ وتخلّف كماً هائلاً من المشاكل، ولكن اللحظات الأولى للانسحاب لم تكن مفاجئة بالنسبة للدول المحيطة بأفغانستان، بل كانوا قد أعدوا العدّة للحظة كهذه، وبدأت نشاطات ما عرف باسم «دول جوار أفغانستان» الذين وضعوا جانباً خلافاتهم البينية، وخلافاتهم مع السلطة الجديدة في أفغانستان بهدف نزع فتيل التفجير، بوصفه المهمة الأكثر إلحاحاً، وبالرغم من أن محاولات التفجير لا تزال مستمرة حتى اللحظة وعلى مدار الساعة، يمكننا القول: إن وزن دول «إطفاء الحرائق الأمريكية» كان كفيلاً لضبط الأمور بالحد الأدنى الضروري.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1218