الغرب ومحاولة القفز فوق الخطوط الحمراء

الغرب ومحاولة القفز فوق الخطوط الحمراء

بات واضحاً أن الإدارة الأمريكية الحالية تسعى جاهدةً فيما تبقى لها من وقت إلى تحقيق أكبر تصعيدٍ ممكن في الملف الأوكراني، وتسليمه لإدارة ترامب بطريقة تعيق تنفيذ وعود هذا الأخير –إن صدقت- لحلّ الملف سريعاً، بل ومحاولة فرض المسار نفسه بغض النظر عمّن يجلس في المكتب البيضوي. إلّا أن هذا التصعيد يهدّد حقاً بنشوب صراع عسكري أعنف وأوسع، قد يشمل دولاً أوروبية أخرى، ويدفع بالأمور خطوةً أخرى باتجاه الحافة النووية.

في خطوة جديدة، أقدمت الإدارة الأمريكية بحسب بعض التصريحات على السماح للقوات الأوكرانية باستخدام صواريخها بعيدة المدى من طراز «ATACMS» لضرب العمق الروسي، وفعلت المملكة المتحدة خطوة مماثلة بسماحها باستخدام صواريخ «Storm Shadow» بعيدة المدى.

جرى ذلك رغم تأكيد موسكو مراراً على أن السماح لكييف باستخدام هذه الصواريخ سيعني تورط الدول الغربية ودخولها في الصراع مع روسيا بشكل مباشر، مما يجعل منها هدفاً مشروعاً للاستهداف الروسي، ذلك أنّ هذه الأسلحة لا يمكن لها العمل دون إدارةٍ وإشرافٍ مباشر من الدول المشغلة لها، سواء من خبراء وعسكريين أو باستخدام الأقمار الصناعية المتطورة لتحديد أهداف هذه الصواريخ ومساراتها.

وقد مُنحت القوات الأوكرانية الإذن بذلك دون إعلانٍ أو تصريح رسمي مسبَق بذلك، بل وحاول الأمريكيون تجنب الإعلان عن ذلك قدر المستطاع.

وبالفعل، شنّت القوات الأوكرانية يومَي 20 و21 من شهر تشرين الثاني الجاري ضربات باستخدام نوعَي الصواريخ المذكورة سابقاً، مستهدفةً منطقتَي بريانسك وكورسك الروسيتين الحدوديتين مع أوكرانيا، فيما يبدو أنها محاولة جسّ نبضٍ لموسكو، مما يثبت أنّ قرار السماح باستخدامها قد اتُّخِذَ بالفعل حتى وإنْ كان دون إعلانٍ رسمي.

العقيدة النووية المحدّثة

جواباً على السماح لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى، سرعان ما أقرّت موسكو عقيدتَها النووية وأعلنت عنها، وكان من أهم ما فيها أنّ «العدوان على روسيا وحلفائها من قبل دولةٍ غير نووية وبدعمٍ من دولة نووية سيُعتَبَر هجوماً مشتركاً» و«يمكن لروسيا استخدام الأسلحة النووية في حالة وجود تهديد خطير للسيادة وسلامة الأراضي لها ولبيلاروس» وأنّه «من شروط استخدام الأسلحة النووية إطلاق الصواريخ الباليستية على روسيا» كما «يعتبر عدوان أيِّ دولة من التحالف العسكري ضد روسيا أو حلفائها عدواناً من قبل هذا التحالف ككلّ».

وللتوضيح، لا يعني ذلك أن موسكو باتت مجبرة على استخدام السلاح النووي ردّاً على أيٍّ من الاحتمالات الواردة أعلاه، إلّا أنّ ذلك يعني إعطاء موسكو لنفسها الإمكانيةَ والحقّ لاستخدام سلاحها النووي قانونياً حين تُقرِّر ذلك بعد تحقّق أيٍّ من الشروط المذكورة.

كما بات واضحاً أنّ أي هجوم على الأراضي الروسية بمساعدة دولة نووية يعني تورّط هذه الدولة بالصراع العسكري المباشر مع موسكو ويضمن للأخيرة حقّ الردّ عليها.

وبالمعنى العملي أكثر، فإنّ هذه العقيدة والإعلان عنها بقدرِ ما تُوصِل رسالةً جديّة باستعداد موسكو لاستخدام أسلحتها النووية وتحقيق ردعِ الغربيين عن استفزازها، فإنها تمهّد فعلياً لاستخدام هذه الأسلحة إن اقتضت الضرورة.

صواريخ أوريشنيك

وردّاً على استخدام القوات الأوكرانية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة الصواريخَ بعيدة المدى مستهدفةً أراضٍ روسية، قامت موسكو ولأوّل مرّة بالإعلان عن نوعٍ جديد من الصواريخ الباليستية فرط صوتية ومتعدّدة الرؤوس «أوريشنيك»، وتبلغ سرعتها 10 أضعاف سرعة الصوت والمجهَّزة أساساً لحمل رؤوس نووية، واستخدمتْها «تجريبياً» برؤوسٍ غير نووية في منطقتي دنيبر وبيتروفسك وسط أوكرانيا في الـ 21 من شهر تشرين الثاني الجاري، وكان استخدامُها صادماً حقّاً بالنسبة للأوكرانيين والغربيّين وأيِّ متابع، حيث بلغت سرعة الصاروخ 3 كم بالثانية الواحدة، ما يعني فعليّاً عدم وجود أيّ منظومة دفاعٍ قادرة على صدّ هذه الصواريخ التي قد تحمل رؤوساً نووية.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه «من هذه اللحظة، كما أكدنا أكثر من مرة، فإنّ الصراع الإقليمي الذي أثاره الغرب في أوكرانيا، قد اكتسب عناصر ذات طابع عالمي» وقال إنّ «روسيا تعتبر نفسها صاحبة حقٍّ في استخدام أسلحة ضد منشآت عسكرية لدول تستخدم أسلحتها ضدَّها»، وفي إشارة منه إلى منظومة الصواريخ الباليستية الروسية الجديدة قال الرئيس الروسي «لا توجد وسائل لمواجهة أحدث أسلحة روسيا اليوم [...] أنظمة الدفاع الصاروخي الحالية، بما في ذلك الأمريكية في أوروبا، لن تكون قادرة على اعتراض صواريخ مثل أوريشنيك، أحدث الصواريخ الروسية، تهاجم الأهداف بسرعة 2-3 كيلومتر في الثانية، ولا تعترضها أنظمة الدفاع الصاروخي».

وفي هذا السياق قال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف: «نحن على ثقة بأنّ الإدارة الحالية في واشنطن كان لها فرصة إدراك الإعلان وفهمه» وأنّ الرسالة «كانت شاملة وواضحة ومنطقية». وهو ما يتّسق مع تأكيد موسكو المستمر على استعدادها لكامل السيناريوهات بما فيها النووية.

غايات الولايات المتحدة من ذلك

يمكن فهم التصعيد الأمريكي وفق أهداف ثلاثة:
الأول، أنّ الإدارة الأمريكية لا تريد بأيّ حال من الأحوال إعلان خسارة معركتها العسكرية مع روسيا في أوكرانيا، وعليه فإن استمرار الحرب هو السبيل الوحيد الممكن لتأجيل هذا الإعلان، وبهذا السياق، وبعد كل تقدم روسي، يتجه الأمريكيون لتصعيدٍ أعلى من شأنه إطالةُ عمر الصّراع وتعقيدُه.

الثاني، محاولة جرّ موسكو إلى ردّ فعل عنيف، بما فيه النووي، لاستخدامه كذريعة لرصّ صفوف الأوروبيين، أو استثماره أمام الرأي العام الدولي لتشويه الموقف الروسي أمام حلفائه التقليديين واستمالتهم.

أمّا الهدف الثالث، وربما الأهم في اللحظة الحالية، إجبارُ تيار ترامب على متابعة المسار نفسه، بعد توريط واشنطن بصراع مباشر وأكثر تعقيداً مع روسيا ما يفرض الواقع الحالي على أيّ صوت يشكك في جدوى هذه المعركة.

لكن خلف كل ذلك فإن المتورط الأول والأهم هم الأوروبيون أنفسهم، فبكلتا الحالتين، تحمل الدول الأوروبية وزر التصعيد الأمريكي... فمن جهة، إذا ما استمر مسار التصعيد الحالي واتسعت رقعة الحرب، ستكون الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا هي المستَهدف الأول بالصواريخ الروسية، ومن جهة أخرى إذا ما بدأ مسار ترامب فعلاً ومضى نحو التسوية مع روسيا في الملف الأوكراني، ستبقى أوروبا وحيدة بقياداتها السياسية الحالية، إما لمتابعة الحرب بعبءٍ أكبر لا يمكنها تحمّله كثيراً أو أنْ تضطر لإعلان الخسارة.

خطوة أقرب باتجاه الصراع النووي

تفرض المستجدات التصعيدية على روسيا ردوداً دفاعيةً تُوازيها قوةً وخطورةً، وفي هذا الإطار تم استخدام «أوريشنيك» برؤوس غير نووية، ليشكل هذا الحدث الخطوة الأقرب باتجاه الصراع النووي عالمياً.

إن الخطوة التالية سيحددها الغربيون عبر تصعيد جديد باستخدام الصواريخ بعيدة المدى لاستهداف العمق الروسي، حينها، لن يكون مستغرباً إقدام موسكو على استهداف أيّ من الدول الأوروبية بأسلحة فرط صوتية غير نووية وبذلك رفع احتمالات تحوّل الصراع إلى صراع عالَمي مباشر مع «الناتو».

وبما يخص استخدام الأسلحة النووية فالأمر متروك للنّخب الأمريكية التي يبدو أنّها لم تدرك بعد أنّ العمل على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا لن يمرّ دون أن تلجأ الأخيرة وبعد إغلاق السبل الأخرى، إلى سلاحٍ يستطيع أن يمنع هزيمة كهذه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1202
آخر تعديل على الجمعة, 29 تشرين2/نوفمبر 2024 19:56