خطة التفجير الأمريكية تدخل مرحلة جديدة...
شغلت المفاوضات التي قادتها واشنطن منذ بدء الحرب في غزّة حيزاً كبيراً من التحليلات، لكنها تدخل اليوم مرحلة جديدة، ويتضح أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أنها كانت مناورة هدفها الفعلي الإبقاء على درجة الحرارة المرتفعة في الإقليم، وتحويل الأجواء الملتهبة في فلسطين إلى نقطة ارتكاز لتوسيع الاشتباك وتفجير المنطقة إنْ أمكن.
نقلت وسائل إعلام أمريكية في الأيام القليلة الماضية جملة من الأفكار حول المفاوضات التي تديرها واشنطن، إذ نقلت «سي إن إن» عن مسؤولين أمريكيين أن: «عقبات المفاوضات بشأن غزة أثارت شكوك البيت الأبيض حول إمكانية إنهاء الحرب قبل انتهاء رئاسة بايدن»، وقالت صحيفة «إن بي سي نيوز» عن مصادر أميركية قولها: إن «رفض المقترح الأمريكي بشأن غزّة سيعني نهاية المفاوضات»، وشاركت صحيفة «واشنطن بوست» بدورها في الترويج لأفكار مشابهة ووصفت «الخطة الأمريكية لوقف إطلاق النار» بأنها: «نهائية وغير قابلة للتعديل» على أساس أن الأطراف المعنية إما أن تقبلها أو ترفضها.
برغم كثافة هذه الأفكار، ظلّ الموقف الرسمي الأمريكي غامضاً ودون إيضاحات، إذ رفض جون كيربي- المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض- الخوض في تفاصيل الإطار الزمني لتقديم الاقتراح، ورفض كذلك وصف المقترح بأنه نهائي! لكن كلمات كيربي هذه لا تمنع ضرورة فهم المغزى من طرح فكرة «نهاية المفاوضات».
فالنشاط الأمريكي في هذا الخصوص لم يتسم بالجدية، وكانت واشنطن ولا تزال طرفاً أساسياً في الحرب، ولم تملك منذ عقود ما يخوّلها لأداء دور الوسيط، وبالتجربة الملموسة تشكّلت قناعة وتحديداً لدى الطرف الفلسطيني المفاوض، أن واشنطن لا تسعى للوصول إلى اتفاق أصلاً، ما فتح باب التساؤلات حول الغرض السياسي من كل تلك الجولات الممتدة طوال الأشهر التسعة الماضية، فكانت فيما يبدو محاولة أمريكية للتحكم بمسار الأحداث، عبر دفع أي جهود لوقف إطلاق النار للسير في طريق مظلم ومسدود، ما يهيئ الأجواء لجيش الاحتلال لأداء دوره وفق الخطة الأمريكية الشاملة لإضرام النار في رقعة جغرافية أوسع.
ماذا عن التلميحات الأخيرة؟!
كلُّ ذلك لا يقدّم إجابة عن سبب تلك «التلميحات» حول اقتراب نهاية المفاوضات، وما يعنيه ذلك من استمرار الحرب لفترة أطول، وربما لآجال زمنية مفتوحة. فالمفاوضات، بلا شك، كانت مرحلة أولى من خطة أشمل، والقول: إن نهايتها اقتربت، يعني أننا على مشارف المرحلة التالية من الخطة الأمريكية، وما يمكننا فهمه من المعطيات الحالية، أن المطلوب أمريكياً هو الحفاظ على الاشتباك في غزّة عبر وسائل جديدة تقلل من الخسائر التي يتلقاها جيش الاحتلال، وتسمح له بالعمل بموارد أقل في القطاع، وتخصيص الموارد المتبقية لجبهات أخرى في الضفة والشمال، والعمل بشكل متوازٍ على فصل الجبهات، وإيجاد مبررات أوسع للاشتباك على خطوط القتال الجديدة، ما يعني أن التهدئة على إحدى تلك الجبهات لا تعني بالضرورة تهدئة شاملة.
ولهذه الاستنتاجات الأولية ما يدعمها في تحركات المسؤولين الصهاينة، إذ عقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو «نقاشاً أمنياً» مع فريق التفاوض وكبار المسؤولين الأمنيين في الكيان، تحت عنوان «الاستعداد لسيناريو عدم الوصول لصفقة لفترة طويلة، واستمرار الحرب على جميع الجبهات والساحات»، وفي الوقت ذاته، عملت صحافة العدو على تثبيت تلك الأفكار، وأضافت بعض التفاصيل.
فـ «يديعوت أحرونوت» أشارت إلى أن طريقة المعارك في القطاع سوف تتغير مع إبقاء الضغط العسكري على حماس، وسيعمل جيش الاحتلال في مناطق الضفة الغربية، مع استمرار سلاح الجو «الإسرائيلي» توجيه ضربات ممنهجة في لبنان «استعداداً لمعركة كبيرة».
وفي تصريحات نقلتها وسائل إعلام عربية، قال وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب: إن «[إسرائيل] نقلت لنا رسالة عبر وسطاء، مفادها أنها غير مهتمة بوقف إطلاق النار في لبنان حتى بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة» في إشارة جديدة إلى العمل الصهيوني الحثيث لمنع التهدئة.
استنتاجات أولية
يبدو مما سبق، أن المطلوب هو تثبيت الاشتباك الحالي وتوسيعه وليس الوصول إلى اتفاق، ولكننا نعلم أن التوتير المستمر يرفع من مخاطر كسر قواعد الاشتباك السابقة، فما يمكن فهمه مما سبق، أن جيش الاحتلال سيكون في الفترة القادمة وبمساعدة كل الموراد الأمريكية المخصصة أداة لتوجيه الضربات في الاتجاهات كافة، مع ما يعنيه ذلك من أنه سيكون عرضة لتلقي الضربات أيضاً، وهذا وإن كان يهدد «إسرائيل» نفسها إلا أنّه يوضح طبيعة المعركة بالنسبة للولايات المتحدة، فتعريض الكيان لمخاطر وجودية هو مسألة ضرورية مع تضيق الاحتمالات أمام واشنطن، فهو قاعدة اشتباك متقدمة في منطقة استراتيجية، وإن كانت الولايات المتحدة تخوض صراعاً على جبهات عدة، فلن يكون الشرق الأوسط بالنسبة لها مساحة مهملة، فالمطلوب إذاً خوض المعركة هنا لأطول فترة ممكنة، ما يسمح لأمريكا العمل على هذه الأرضية الملتهبة كجزء من خطتها الشاملة على المستوى العالمي، فالموارد الأمريكية وإن كانت محدودة بطبيعة الحال إلا أن الوقت قد حان لإخراج ما جرى تخزينه لعقود في مخازن الأسلحة، فالاشتباك واحد رغم تعدد الجبهات.
خطة كهذه تشكل تهديداً كبيراً لمنطقتنا، ولكنها في الوقت نفسه محفوفة بمخاطر كبيرة، فمع كل خطوة أمريكية جديدة للتوتير، يزداد يقين دول المنطقة على ضرورة رص صفوفها وحرمان واشنطن من أي مكسب صغير، بل إن التعاون والتنسيق المتنامي بين دول الإقليم فيما بينها من جهة، وبين دول الشرق من جهة ثانية، من شأنه أن يصعّب الحركة الأمريكية والصهيونية، ويعظم خسائرهم الإجمالية، ويضعف بالتالي موقعهم في الاشتباك العالمي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1191