من يجلس على طاولة المفاوضات التي ترعاها واشنطن؟!
تشكّلت خلال الأشهر الماضية قناعة، أن المفاوضات التي ترعاها واشنطن بين حركة حماس والكيان الصهيوني برعاية مصرية- قطرية ما هي إلا «طبخة بحص» وأن الإدارة الأمريكية لم تكن جادة بالوصول إلى اتفاق، وإنما استخدمت هذه المبادرة كأداة سياسية لمخططها العدواني في المنطقة، في الوقت الذي أُوكل لجيش الاحتلال إنجاز المهام العسكرية المباشرة على الأرض، لكن ما يجري تناقله حول هذه المفاوضات ينبئ بتبديلات يتحوّل فيها المُيسرين إلى الطرف المفاوض!
لم تتوقف محاولات الخداع الصهيونية منذ الإعلان عن بدء التفاوض، ففي الوقت الذي تعلن «إسرائيل» مشاركتها الرسمية فيها، تكشف أفعالها والتصريحات الرسمية لمسؤوليها أن الهدف المدعوم أمريكياً هو المماطلة، لرفع درجة التوتر في المنطقة لا الوصول إلى اتفاق، وبدا ذلك جلياً من خلال التكرار شبه اليومي: أن الهدف هو القضاء على حماس، وصولاً إلى حد اغتيال كبير المفاوضين في الحركة، الشهيد اسماعيل هنية، العمل الذي حمل رسالة سياسية ردّت عليها الحركة بتعليق مشاركة وفدها في المفاوضات، حتى يقبل الكيان بالاتفاق الذي قدّم لحماس ووافقت عليه في وقتٍ سابق.
محور فيلادلفيا يعود إلى الواجهة
نقلت وسائل إعلام أمريكية، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يعمل مع إدارته «للضغط على [إسرائيل] بخصوص الانسحاب من محور فيلادلفيا» ومن المعروف أن الحديث يدور عن المنطقة العازلة التي جرى إلحاقها باتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في عام 2005 بعد إقرار الكيان لخطة فك الارتباط التي شملت قطاع غزة، وينص الاتفاق على إدارة المنطقة الممتدة على طول 14 كم بين السلطة الفلسطينية ومصر، ويحدد الملحق شكل وطبيعة وحجم التواجد العسكري في المنطقة العازلة.
لكن ومع توسّع العمليات العسكرية لجيش الاحتلال في القطاع، وصلت قواته إلى المنطقة العازلة وسيطرت عليها في خرق واضح للاتفاق المذكور.
احتلال «إسرائيل» لمحور فيلادلفيا كان بنداً أساسياً في المفاوضات بين المقاومة الفلسطينية والكيان، وتمسّك الطرف الفلسطيني أثناء المفاوضات بانسحاب كامل للكيان، لا من محور فيلادلفيا وحسب، بل من غزّة كلّها، لكن الكيان تمسّك بضرورة سيطرته الأمنية والعسكرية على تلك المنطقة، التي وصفها بأنّها «أنبوب الأوكسيجين لحماس» وتذرّع بأن مصر لم تلتزم بتأمين المنطقة، مما سمح للمقاومة الفلسطينية بحفر شبكة من الأنفاق حسب الرواية «الإسرائيلية».
المناورة الأمريكية والرد الصهيوني
ما أن نفّذ جيش الاحتلال عمليته في طهران، والتي أدت لاستشهاد اسماعيل هنية، حتى علّق الجانب الفلسطيني حضوره للمفاوضات دون أن ينسحب منها، لكن الإدارة الأمريكية لم توقف الجولات حتى مع غياب الطرف الفلسطيني، في خطوة بدت شكلية للحظة الأولى، لكن تطور الأحداث في الأيام القليلة الماضية كشف أن الهدف الأمريكي كان الانتقال إلى المرحلة الجديدة، وهي تحويل مصر من راعٍ للمفاوضات إلى طرف مباشر فيها!
فالحيّز الذي كان يشغله «وقف إطلاق النار» في الخطاب الرسمي الأمريكي يتقلّص في مقابل التركيز على محور فيلادلفيا، والمثير للانتباه أن ما يجري تناقله في وسائل الإعلام ينحصر بأن «بايدن يطلب الانسحاب من موقع عسكري واحد في محور فيلادلفيا» أو بضعة كيلومترات! وترافقت هذه المعلومات مع تقرير نقلته إذاعة «كان 11» قالت فيه: إن «رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وافق على اقتراح الولايات المتحدة بشأن الانسحاب من محور فيلادلفيا في منطقة الحدود بين غزة ومصر» وهو ما سارع ديوان رئاسة الحكومة [الإسرائيلية] لنفيه، وقال في بيان رسمي: «التقرير غير صحيح، و[إسرائيل] ستصرّ على تحقيق جميع أهداف الحرب، حسبما حددها المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر».
الموقف المصري
الأحاديث السابقة ظلّت في معظمها أنباءً غير رسمية، ونسبت التصريحات إلى «مسؤولين»، إذ نقلت قناة تلفزيون «القاهرة الإخبارية» عن «مصدر مصري رفيع» قوله: إن مصر تؤكد موقفها «بعدم التعامل في معبر رفح إلا مع الأطراف الفلسطينية والدولية، مشدداً على أن مصر لن تعتمد التنسيق مع الجانب الإسرائيلي في المعبر». وأكد مدير صحيفة الأهرام أشرف العشري: «رفض المسؤولون المصريون خريطة عرضها نظرائهم [الإسرائيليون] تشمل سيطرتهم على محور فيلادلفيا» وأضاف العشري: إن «[إسرائيل] عرضت أيضاً أن يكون لها وجود عسكري رمزي في محور فيلادلفيا، كما اقترحت أن تخفض عدد الفرق العسكرية الحالية الموجودة هناك من سبع إلى قوتين فقط، ولكن مصر رفضت هذا الاقتراح أيضاً». وحذّر مدير الصحيفة الحكومية المصرية من أن «مصر ترى أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة إذا تم تهديد الأمن القومي الخاص بها بدءاً من سحب السفير إلى وقف التطبيع إلى تجميد العلاقات الاقتصادية والدفاعية».
هدف واشنطن
يتضح تدريجياً وبالدليل الملموس، أن التحركات الدبلوماسية الأمريكية ومن اللحظة الأولى كانت تعمل على التوتير والمماطلة وإعاقة الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، لكن المستجدات الأخيرة تكشف أن الهدف الحالي هو دفع مصر إلى الواجهة والضغط عليها، وتحويلها من ضامن إلى طرف في المفاوضات، ما يعني طرفاً مباشراً في الصراع وبشكلٍ معلن، وإن كان ذلك واضحاً منذ اللحظة الأولى، إلا أنّه لم يأخذ طابعاً رسمياً كما هو اليوم، فمع غياب المقاومة الفلسطينية عن طاولة المفاوضات، تعمل واشنطن على خلط الأوراق مجدداً، فالإدارة الأمريكية تأمل في خطوتها الأخيرة تحميل مصر مسؤولية «فشل الوصول إلى اتفاق» من خلال تقديم عرض لا يمكن قبوله في القاهرة، لما يحمله من تنازلات كبرى للعدو الصهيوني وعلى الملأ، وخصوصاً مع تصريحات «إسرائيلية» استفزازية، وإن كان الحديث حتى اللحظة لم يحمل طابعاً رسمياً، ولم يخرج نفي أو تأكيد مصري على طبيعة الملفات التي جرى بحثها في المفاوضات الأخيرة التي عقدت في القاهرة إلا أن الاتجاه العام أصبح أكثر وضوحاً.
هدف كامب ديفيد العميق
بعد أن وقّعت مصر على اتفاق كامب ديفيد سيء الصيت، أخذ دورها بالانكفاء، وتحوّلت من قوّة إقليمية أساسية في المنطقة، إلى دولة واقعة تحت ضغط الديون والتبعية الاقتصادية، مع ما يعنيه ذلك من تبعية سياسية، لكن الجدير بالذكر، أنه ومنذ اللحظات الأولى التي أعلن فيها الرئيس أنور السادات عزمه زيارة الكنيست الصهيوني، ظهر أن هذا التوجه لا يُعبّر عن المزاج العام داخل جهاز الدولة، وتلت الخطوة سلسلة من الاستقالات، وإن كانت أصوات رافضي التطبيع داخل جهاز الدولة خفتت مع الوقت، إلا أنهم موجودون حتى اللحظة في المجتمع والدولة، ومع ازدياد التهديدات على مصر سنكون أمام احتمالين،
الأول: انفجار داخلي يحقق الهدف الأمريكي الصهيوني.
الثاني: يكون بدء استدارة مصرية بعيداً عن الولايات المتحدة التي تقود حملة الضغط على القاهرة، فتحوّل مصر إلى طرف مباشر وبشكل معلن، وإن كان ذلك يعني زيادة مباشرة في الضغط، إلا أنّه يعني أيضاً وزناً إضافياً للقوى الوطنية داخل المجتمع وجهاز الدولة، القوى التي تدرك أن الهدف من كامب ديفيد والتبعية للولايات المتحدة لا ينحصر في تحييد مصر عن الصراع فحسب، بل هو أداة أمريكية لتفتيتها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1189