الناتو محتفلاً بعامه الـ 75... أي مستقبل لديه؟

الناتو محتفلاً بعامه الـ 75... أي مستقبل لديه؟

احتفل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وبحضور وزراء خارجية أعضائه الـ 32، يومي 3 و4 نيسان، بالذكرى الـ 75 لتأسيسه. بيد أن مراسم الاحتفال لم تتمكن من التغطية على الخلافات والانقسامات التي تكتنفه، وبشكلٍ خاص على خلفية الهزيمة التي باتت واضحة، وإنْ لم تعلن بعد في أوكرانيا، التي شكلت الموضوع الرئيس لخطابات أعضاء الحلف.

تخسر كييف المعركة يوماً وراء يوم وبشكل متسارع، وتخسر كذلك دعم حلفائها لها بإمدادات المال والسلاح واللوجستيات، ولكنّ الخسارة الأكبر هي خسارة المستثمرين في حربها...
وصل الأمر حدّ الاعتراف صراحة من قبل الغرب كافة، والناتو ضمناً، أن أوكرانيا تخسر فعلاً بينما روسيا تتقدم، ولم تعد المهمة الكبرى المعلنة على الأقل هي هزيمة روسيا، وإنما منعها من الانتصار.

قبيل الذكرى

بَيّن العامان الماضيان بشكل واضح، أن التمويل وإمدادات الأسلحة مهما كان تدفقها لم ولن يؤديا إلى تحقيق أي تقدم حقيقي بالنسبة لأوكرانيا، ليبقى الخيار الوحيد الممكن هو ما يجري الحديث عنه: إرسال قوات عسكرية بشكل مباشر من دول الناتو إلى الأراضي الأوكرانية. بيد أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر النووية مباشرةً، وبتوسع ساحة المعركة عسكرياً من الميدان الأوكراني إلى أوروبا بأسرها، وبتحوّل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى حرب عالمية بقنابل نووية ذات قدرات تدميرية مهولة.
يدرك الغربيون، أن مثل هذا الخيار قد يعيق روسيا عن تحقيق نصرها في أوكرانيا، إلا أنه يعني وفي الوقت نفسه وبشكل أكيد، عدم تحقيق الغربيين لأي نصر كذلك الأمر، وخسارة الجميع بفاتورة باهظة الثمن تهدد الوجود البشري بأسره.
تنقسم الآراء داخل النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تنقسم لدى الدول الأوروبية، وفيما بين الدول الأعضاء لحلف الناتو.
في الولايات المتحدة، يشير ترامب إلى إمكانية انسحاب بلاده من الحلف ما لم تتحقق مجموعة من الشروط الصعبة على الحلفاء الأوروبيين، ويُؤخذ مثل هذا التهديد على محمل الجد، خاصة وأن المؤشرات الراهنة تفيد بفرص عالية لفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وفي أوروبا وبين أعضاء الناتو، يتباين الأعضاء في مواقفهم بين مؤيد ومعارض لإرسال قوات عسكرية مباشرة لأوكرانيا من أبرزهم فرنسا وهنغاريا، فضلاً عن تغيّرات جدية طرأت على سياسات وتوافقات بعض هذه الدول الأعضاء ومن أبرزها تركيا.
كما أن جزءاً كبيراً من الأعضاء الأوروبيين يخيم عليهم شعور بهيمنة الولايات المتحدة عليهم، التي تدفعهم نحو دائرة الخطر والمواجهات الأعلى التي لا تخدم سوى مصالحها، لتُنتج فكرة خلال السنوات الأخيرة مفادها إمكانية إنشاء تحالف دفاعي أوروبي جديد لا وجود للولايات المتحدة الأمريكية فيه.
وأمام ذلك كله تؤكد روسيا على الدوام فكرتين، الأولى: استعدادها وجاهزيتها تماماً لمواجهة حلف الناتو، بما في ذلك الاستعداد وعدم التردد باستخدام السلاح النووي في حال تهديدها نووياً أو وجودياً، والثانية: أنها منفتحة على الاتصال مع الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، في حال توفرت الإرادة السياسية للتفاوض الجاد لدى الطرف الآخر.
بين هذا وذاك، يدرك الناتو أن مواجهة روسيا تعد أمراً بالغ الصعوبة بالفعل، ولا يمكن ضمان الفوز بها، فضلاً عن تداعيات الأمر عالمياً. ومن جهة ثانية فإن الاتصال مع روسيا والدخول في التفاوض يعني خطوة عملية نحو التهدئة والمفاوضات، أي ضمنياً الإقرار بانتصار موسكو، وبتراجع الغرب ككل.

أيّ احتفال؟

على هذه الأرضية، أقام حلف شمال الأطلسي احتفاله بالذكرى الـ 75 لتأسيسه. ومن هذه الأرضية ادّعى أمينه العام ينس ستولتنبرع أن الحلف اليوم أقوى مما مضى، وأنّ أعضاءه أقرب بعضُهم لبعض...
في الكلمة نفسها، يناقض الرجل نفسه عبر طرحه فكرة مفادها أن توريد السلاح والمعدات إلى أوكرانيا ينبغي أن يكون إلزامياً على أعضاء الحلف، وليس طوعياً كما هو الحال الآن.
كما تمت مناقشة فكرة نقل عمليات تنسيق مساعدات أوكرانيا من الولايات المتحدة إلى الناتو.
ورغم الكثير من التصريحات والعبارات المدبجة والنارية، لم يخرج اجتماع وزراء خارجية الحلف، واجتماع مجلس أوكرانيا-الناتو، بأي قرارات ذات تأثير حقيقي على مجريات الأمور، وكان القرار الوحيد الجدير بالذكر هو تشكيل مهمة مشتركة للناتو تتمثل بإرسال بعثة من الخبراء العسكريين إلى أوكرانيا لتدريب القوات الأوكرانية، ليكون هذا القرار حصيلة التناقض الجاري في المواقف، بين إرسال قوات عسكرية من عدمه، إلا أنه يحمل تهديدات بالغة الخطورة مستقبلاً؛ فمن جهة، لن يمر هذا الأمر دون رد روسيّ، بدأ بتصريح حاد من الكرملين بأن العلاقات مع حلف الناتو قد انحدرت إلى مستوى المواجهات المباشرة. ومن جهة أخرى فإن وجود خبراء من الناتو رسمياً على الأراضي الأوكرانية، يعني وجود تهديدات على مدار الساعة بتعرضهم لنيران الحرب، سواء عبر استدراج روسيا لضرب هدف ما يتواجدون به، أو توريط بعضهم بالذهاب إلى الخطوط الأمامية وتعريض حياتهم للخطر، وأي سيناريوهات أخرى تفضي إلى مقتلهم، بما فيها اغتيالهم حقيقةً من قبل النظام الأوكراني لاتهام روسيا، وليؤدي مثل هذا الأمر إلى ردود فعل من أعضاء الناتو تصل حد اعتبارها حرباً رسميةً مع روسيا.
فيما عدا ذلك، قامت هنغاريا بعرقلة إنشاء صندوق دعم مالي عسكري لأوكرانيا خلال الاجتماع، وهي التي أكدت أنها ستقوم بعرقلة أي قرارات قد تؤدي إلى تصعيد عسكري مع موسكو، تجنباً لتوسّع رقعة الصراع والدخول بحرب لا مصلحة للأوروبيين فيها.

العلاقات بين الناتو وأوكرانيا

لا تزال كييف تطمح بدخولها إلى حلف الناتو، وهو ما جرى تلطيفه عبر إنشاء مجلس أوكرانيا-الناتو، بينما يستمر الغربيون بإعطائها وعوداً مخدرة كان من آخرها تصريحات وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، أن أوكرانيا ستصبح دولة في الناتو في نهاية المطاف.
فضلاً عن ذلك أقدم ستولتنبرع على تصريحات استقبلها الأوكرانيون باستفزاز، مفادها أن القوات الأوكرانية تقوم بالدفاع عن حلف الناتو ووجوده وأعضائه، ليستقبل الأوكرانيون هذا الأمر أن الناتو يستخدمهم كأداة ويستخدم دماءهم لتحقيق مصالحه، ليقول أحد الخبراء السياسيين الأوكران، فاديم كاراسيف، مثالاً: «هل تفهمون كيف يتم قلب هذه الفكرة؟ هذا ما يسمى باستراتيجية (الناتو) الجديدة لاحتواء روسيا بأيدي الأوكرانيين وأرواحهم. لم نتفق على ذلك! [...] والآن اتضح أنه من أجل إنقاذ (الناتو) من الآلة العسكرية الروسية، يجب على أوكرانيا الدفاع عن (الناتو) بأيدي الجنود الأوكرانيين وبأرواحهم».

أيّ مستقبل؟

تتجه الأنظار الآن نحو الانتخابات الأمريكية المقبلة، وإمكانات فوز ترامب والجمهوريين بها، ليرى بعض الأوروبيين أن هذا الأمر سيعني انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو على الفور، وحقيقة الأمر أن الحلف بأسره وبأعضائه كافة يعاني أزمة وجودية، رغم توسعه الأخير بانضمام أعضاء جدد جرى توريطهم.
يعيش حلف الناتو الآن عبر التنفس الاصطناعي من الرئة الأوكرانية بإشراف أمريكي، إلا أن حقيقة انتصار روسيا بالمعركة بنهاية الأمر سيعني انهيار الناتو كما هو معروف حتى الآن، ومن ذلك تسعى الإدارة الحالية في الولايات المتحدة الامريكية إلى إطالة أمد الصراع، وتسويف المفاوضات قدر الإمكان، وحتى آخر نفس ممكن، ما لم يجر تصعيد متهور يفضي إلى توسع رقعة الحرب.
على الجانب العقلاني، يمكن القول بكل تأكيد: إن الغربيين لن يقدموا على مثل هذا التصعيد، لكن ما مدى عقلانية بعض القوى الأكثر تطرفاً وإجرامية في الغرب، وما مدى قدرة الأطراف الأخرى على كبح جماحها، وما هي خيارات تلك القوى الواقعية في ظل إصرارها على الحفاظ على الأحادية القطبية وعلى الهيمنة العالمية...؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1169
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 12:40