هل هناك نوايا حقيقية لرفع «الراية البيضاء» في أوكرانيا؟
مع دخول المعركة في أوكرانيا عامها الثالث، يتزايد الاستقطاب في الغرب أكثر فأكثر بين الداعين إلى المفاوضات وإنهاء الصراع، ومن يسعون لتجميد الوضع القائم بل وتصعيده أكثر، وظهرت في الأيام القليلة الماضية دعوات للتفاوض قادمة من بابا الفاتيكان، ترافقت مع دعوات للتصعيد من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
تدل المؤشرات العسكرية الميدانية كافة، والمؤشرات السياسية والاقتصادية من داخل وخارج أوكرانيا، فيما يتعلق بالتمويل والدعم العسكري، إلى أن الطريق نحو أدنى تغيير بالنتيجة الحالية يُعدُّ مستحيلاً. لكن المتمسكين بخيار الحرب لا يرون مشكلة في التضحية بالشعب الأوكراني ويتمنون استمرار الحرب لتحقيق أكبر قدر ممكن من استنزاف طاقات روسيا.
الأشهر المقبلة تحدد النتيجة
يتحدث معظم المحللين والسياسيين أن الأشهر القريبة المقبلة سوف تحدد نتيجة الصراع في أوكرانيا، ومنهم مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي عادةً ما تتوافق مواقفه مع الآراء والمصالح الأمريكية، حيث قال: «هذا الصيف وحتى الخريف سيتم تحديد نتيجة الحرب في أوكرانيا [...] يجب أن نُسرع. يجب أن نزيد دعمنا، وأن نفعل المزيد وبشكل أسرع [...] لا يمكن لأوكرانيا انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية».
وبالتوازي مع هذه الآراء فيما يتعلق بالمرحلة المقبلة، أقدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على توقيع اتفاقية أمنية مع الجانب الأوكراني قبل شهر من الآن، تشمل تقديم 3 مليارات يورو كمساعدات لكييف، وتوريد معدات عسكرية حديثة لها، وتعزيز الصناعة الدفاعية وإنتاج مشترك للأسلحة في الأراضي الأوكرانية، ومصادقة مجلس الشيوخ الفرنسي على الاتفاقية بعد التصويت عليها، وتبع ذلك تصريحاته حول إرسال قوات فرنسية وغربية إلى أوكرانيا لضمان عدم انتصار روسيا في المعركة، وحول إمكانات انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الناتو.
جميع الأحاديث التي تتوقع انتهاء المعركة وتحديد نتيجتها خلال الأشهر المقبلة تستند إلى نقطتين، الأولى: النتيجة الحالية والمؤشرات المرتبطة بالظروف الموضوعية كافة، وتطورها بغير مصلحة الغربيين عموماً والأمريكيين خاصةً، والثانية: هي التوقعات الكبرى المسبقة حول فوز الجمهوريين بقيادة ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة، وتنفيذ سياستهم الخارجية التي تنطوي بجزء كبير منها على إنهاء الصراع في أوكرانيا، أو على الأقل وقف الدعم الأمريكي لها وتركها للأوروبيين وحدهم للتعامل معها.
انقسام واستقطاب: ماكرون والبابا فرنسيس يتصدران المشهد
ضمن هذا المشهد ينقسم الغربيون، ويجري استقطاب متزايد، حول الموقف من الملف الأوكراني: لنجد ماكرون أو بوريل كمثالين معبرين عن تيار يدعو للتصعيد قدر الإمكان بمحاولة بائسة لتغيير النتائج سريعاً، حتى وإن أدى ذلك إلى خسارات أكبر، وتيار آخر يرى أن وقف المعركة عند حدها الحالي وأبكر يمكن أن يُعد أفضل النتائج الممكن تحقيقها، ومن جهة أخرى منع تدرج الصراع لدرجات خطيرة تنذر بحرب شاملة في أوروبا، وربما نووية لا يمكن الرجوع عنها.
ومن آخر الأصوات التي برزت كان بابا الفاتيكان فرنسيس الذي صرّح «أعتقد أن الأقوى هو الطرف الذي يرى الوضع من زاوية أفضل، وهو الشخص ذاته الذي يفكر في الناس ويمتلك الشجاعة لرفع الراية البيضاء والتفاوض [...] اليوم يمكن التفاوض بمساعدة القوى الدولية، وكلمة التفاوض كلمة جريئة مرادفة لكلمة شجاعة، وعندما ترى أنك تخسر وأن الأمور تسير على نحو خاطئ، فإنك بحاجة للتحلي بالشجاعة للتفاوض، ورغم شعورك بالخجل والضعف، ما حجم الخسائر والوفيات التي تحتاجها لتدرك الحاجة لإنهاء هذه الحرب؟، عودوا إلى طاولة المفاوضات في الوقت المناسب وابحثوا عن بلد مناسب ليلعب دور الوسيط [...] لا تخجلوا من التفاوض، تحلوا بالشجاعة واخطوا نحو طريق الحل قبل تفاقم الوضع [...] المفاوضات ليست استسلاماً أبداً [..] الشجاعة ليست في دفع البلاد نحو هاوية الانتحار».
ردود الفعل على تصريحات البابا
استقبل القادة الأوروبيون، خاصة في ألمانيا، والأوكرانيون حديث البابا فرنسيس بغضب، حيث انتقد الرئيس الأوكراني فلاديميرو زيلينسكي تصريحات البابا فرنسيس، وقال وزير خارجية أوكرانيا دميترو كوليبا: «رايتنا صفراء وزرقاء. إنه العلم الذي نعيش من أجله ونموت وننتصر. لن نرفع أبداً رايات أخرى. عندما يتعلق الأمر بالراية البيضاء، فإننا نعرف استراتيجية الفاتيكان في الجزء الأول من القرن العشرين. وأدعو إلى تجنب تكرار أخطاء الماضي ودعم أوكرانيا وشعبها في نضالهما من أجل الحياة». واستدعت الخارجية الأوكرانية سفير الفاتيكان في البلاد وأعربت له عن «خيبة الأمل» من تصريحات البابا فرنسيس.
واعتبرت نائبة رئيس البرلمان الألماني كاترين غورينغ إيكارت، أن من يدعو للاستسلام يريد محو أوكرانيا، وقالت: «لا أحد يرغب في السلام أكثر من أوكرانيا»، وأكد المستشار الألماني أولاف شولتس على لسان المتحدث باسم الرئاسة الألمانية شتيفن هيبشترايت رفضه رفع «الراية البيضاء» وقال: «يمكنكم أن تتصوروا أن المستشار لا يتفق مع رأي البابا في هذه القضية [...] الصحيح هو أن أوكرانيا تدافع عن نفسها ضدّ معتدٍ». أما وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك فقالت: «أتساءل بحق عمّا كان يفكر فيه في تلك الأثناء (..) لا أفهم ذلك».
في المقابل، استقبلت موسكو تصريحات البابا بإيجابية، واعتبرت أن هذه التصريحات لا تدعو أوكرانيا إلى الاستسلام، وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف: «حسب فهمي للموضوع، كان هناك سياق أوسع في تصريحات البابا. لكن بشكل عام، الفكرة التي تحدث عنها، بالطبع، مفهومة تماماً - لقد تحدث لصالح المفاوضات. وكما تعلمون تحدث الرئيس فلاديمير بوتين مرات عديدة عن استعدادنا وانفتاحنا لحل المشاكل كافة من خلال المفاوضات، وهذا هو المسار المفضل». وأكدت موسكو كما تؤكد على الدوام رغبتها واستعدادها لإجراء مفاوضات جادة تضمن مصالحها وأمنها القومي.
الراية البيضاء.. المعضلة الغربية الراهنة
إن موقف البابا فرنسيس يُعدُّ تعبيراً عن موقف تيار موجود في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ويشكل تصريحه هذا ضغطاً جاداً على كييف وحلفائها ممن يدعون لاستمرار التصعيد، حيث للفاتيكان شعبية واسعة في الغرب، وما يصدر عنه يؤثر اجتماعياً على الرأي العام ويرفع منه. وما قصده البابا برمزية الراية البيضاء، أكان سلاماً أم استسلاماً، يعني المفاوضات في المحصلة، وهو الأمر الذي لا يزال النظام الأوكراني ومن خلفه الإدارة الأمريكية الحالية بطبيعة الحال، يرفضه تماماً. ويتعلق هذا الأمر بأن مجرد دخول المفاوضات يعني إعلاناً بخسارة المعركة الأوكرانية، وهذا الأمر بدوره يعني خسارة واشنطن التيار المتشدد في الولايات المتحدة والعالم.
بالرغم من تصريحات البابا إلا أن الخيار الغربي القائم حتى اللحظة والذي يمكن الحديث حوله، هو خيار التصعيد ورفع مستويات التوتر، فالمشكلة التي انفجرت في أوكرانيا ليست مشكلة خاصة، بل مشكلة مرتبطة بأوروبا كلّها والدور الأمريكي في توجيه البنادق الأوروبية اتجاه روسيا والدفع بقوات الناتو باتجاه الشرق، وهو ما خلق حالة من اختلال الأمن في القارة، وهدد فيها الأمن الوطني لقوى عظمى. كل هذا يجعل أي حديث عن السلام يبدو باهتاً وغير مقنع، وخصوصاً مع الأنباء المتواترة حول زيادةٍ بالقدرات العسكرية النوعية الأوكرانية، التي لن تكون قادرة على حسم المعركة لصالح الغرب، ولكنها قادرة على إدامة الاشتباك لمدة أكثر وتأخير تثبيت الأوزان الجديدة على الساحة الإقليمية والدولية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1166