في مقدمات «طوفان الأقصى» ومأزق «إسرائيل»

في مقدمات «طوفان الأقصى» ومأزق «إسرائيل»

الأيام التي تلت عملية حركة حماس في 7 تشرين الأول، حملت معها فيضاناً من تطوراتٍ لم تتوقف حتى الآن، وإن كانت كثافة ما يجري خلقت- برغم أهميتها- حالة من الاضطراب في تحليل اللحظة، إلا أننا نقف اليوم في نقطةٍ مفصلية، مهمة وحساسة، تفرض علينا فهماً دقيقاً للمشهد وكل مقدماته، فكشف كل هذا سيكون شرطاً ضرورياً لفهم الاتجاه القادم للأحداث.

يشكك البعض في أن الكيان عالقٌ في مأزق، ويرى هؤلاء أن رده الوحشي على عملية «طوفان الأقصى» وما نتج عنه من دمار وتزايد في أعداد الضحايا، كان بمثابة دليل على «تعافي» الكيان من الصدمة، لكن الرد العنيف، وتحديداً استهداف المدنيين، والبنى التحتية، والقطاع الصحي والطواقم الإعلامية، كان بمثابة دليلٍ على حجم التخبط، خصوصاً أنّ كل ذلك لم يقرّب الكيان من تحقيق أيٍ من أهدافه المعلنة، بل ساهمت هذه الأفعال بتضيق الخناق عليه، وزيادة تكاليف خروجه من هذه الحفرة العميقة. وإن كان ذلك لا يبدو دليلاً كافياً لإثبات أن الكيان في مأزق حقيقي، أو أنه يعاني من أزمة وجودية، فلا بد لنا من الإحاطة ببعض الجوانب المتعددة لهذه الأزمة للوصول إلى فهمٍ أفضل لمعنى ما جرى في 7 تشرين الأول.

ما الذي تغير في العالم؟

أكثر جوانب أزمة الكيان وضوحاً، هي التغيرات الكبرى التي شهدها العالم المحيط به، فهذا العالم بالذات، هو الذي ساهم في قيام الكيان وتهيئة كل الظروف اللازمة لبقائه وتوسّعه طوال عقودٍ مضت، والتغيير المتسارع مؤخراً للقواعد التي نَظَمت عالمنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت تؤثر بوضوحٍ على الكيان، فالعصر الذهبي لداعمه الأساسي دخل مرحلة النهاية، ما يعني أن الشرط الجوهري في استمرار الكيان بشكله الحالي يتغير. الدعم القادرة واشنطن على تقديمه لم يعد كافياً لتحقيق المطلوب منه، وبدأ تواجدها الكثيف في المنطقة يتناقص بشكلٍ ملحوظ، من حيث الكم والنوع، ففي العراق وسورية تحافظ واشنطن على وجود عسكريٍ يتعرض لضغوط متزايدة، تجعل هذه القوات منشغلة بتأمين قواعدها بأعداد محدودة من الجنود والعتاد، والتقارير القادمة من الخليج في السنوات الأخيرة، تؤكد أن واشنطن باتت مضطرة لسحب جزء كبير من قواتها المنتشرة هناك وتحديداً الجزء النوعي منها، وذلك تحت تأثير الضغوط المتزايدة في شرق آسيا. والصورة بدت أكثر وضوحاً بعد انسحاب واشنطن من أفغانستان، الذي تحوّل إلى درس لكل حلفائها في العالم، مفاده أن مرحلة التوسع العسكري الكبرى لجيش الولايات المتحدة انتهت، فـ «إعادة تموضع» القوات وتركيزها في «النقاط الأكثر أهمية» يعني ضمناً أن قدرات واشنطن لم تعد تسمح لها بالحفاظ على أوسع انتشار ممكن، وأن الحديث لا يدور عن كون وجود هذه القوات لم يعد ضرورياً بالنسبة لها، بل على العكس، فكل المناطق التي تنسحب منها أو تقلل الولايات المتحدة من تواجدها فيها تعتبر مناطق حيوية واستراتيجية، والفراغ الذي يمكن أن تتركه هناك سيملأه الآخرون.

مشهد إقليمي يناقض مصالح الكيان

انخفاض التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، رافقه تراجع في دورها السياسي، ويبدو هذا واضحاً بعد جملة تطورات لم تكن في مصلحة واشنطن أو الكيان. فالتقارب السعودي الإيراني وعودة العلاقات إلى شكلها الطبيعي، والتطور المستمر في عدد من الملفات الثنائية بين البلدين، شكّل عائقاً كبيراً وأساسياً في وجه بناء جبهة «عربية- صهيونية» لمواجهة إيران، كما أملت الولايات المتحدة، وكانت وساطة بكين في هذا الاتفاق دليلاً على قدرة الآخرين على ملء الفراغ والتأثير على اتجاه التطور العام، فبدلاً من تغذية التصعيد والرهان عليه، دفعت بكين في هذا المثال، باتجاه التهدئة والتوافق، ما يبعد أكثر فأكثر شبح مواجه دامية في المنطقة، يستفيد منها الكيان قبل غيره، وفي سياقٍ مشابه حملت السنوات الماضية تطورات مشابهة، منها نشوء مجموعة أستانا التي جمعت بين روسيا وإيران وتركيا، بعد توافق مرن بين هذه القوى الثلاث للعب دور مشترك في سورية، أعاق بوضوح المواجهات العسكرية الدائرة فيها. ويمكننا القول: إن سلسلة من التوافقات التي شهدها الشرق الأوسط مؤخراً تؤكد تعارض التطورات الإقليمية مع المصالح «الإسرائيلية» والأمريكية، مثل: التوافق التركي-المصري، والتركي- السعودي، وخصوصاً، أن دولاً مثل: تركيا وإيران والسعودية يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في المنطقة، بعد توافقها على مجموعة من المسائل الأساسية، وهو ما يجري فعلياً على أساس تثبيت مصالحها الوطنية التي لا يمكن التوفيق بينها وبين مصالح الكيان التوسعي، أو بين مصالح واشنطن بتحويل المنطقة إلى بؤرة توتر دائمة. كل ذلك وضع «إسرائيل» في منطقة تحوّلات موضوعية سريعة. ولما كانت أزمة الولايات المتحدة ونمو قدرات منافسيها الآخرين على الساحة الدولية قد سمحت بنشوء وتطور هذا الظرف، فهذه العوامل ذاتها تركت أثراً واضحاً في داخل الكيان، وسببت أزمة سياسية تاريخية شلّت إلى حدٍ كبير قدرته على الحركة، ودفعته إلى درجة غير مسبوقة من الانقسام، وصلت إلى حدود حرب أهلية حقيقية.

المقاومة، السلطة الفلسطينية، ووحدة الصف

لا يمكن الحديث عن أزمة الكيان دون أن نلقي الضوء على الوضع الفلسطيني، فبعد أن ثبتت أوسلو السلطة الفلسطينية، وحاولت تحويلها إلى نموذج ينبغي تعميمه بالنسبة للكيان، تبين خلال السنوات الماضية أن ذلك أقرب إلى المستحيل، فصلاحية هذا النموذج تنتهي بسرعة، ويتشكل في الوقت نفسه ملامح لمرحلة لاحقة، فإذا كان المشهد السابق يمكن تلخيصه بوجود «السلطة» التي تعمل كأداة بيد الاحتلال في ظل انقسام بين الفصائل الفلسطينية، وتصعيد صهيوني مستمر. فالمشهد اليوم مختلفٌ تماماً، إذ ثبت الفلسطينيون المقاومة المشروعة بوصفها خياراً شعبياً، وقدّموا نماذج جديدة سرعان ما تحوّلت إلى ملامح لفضاء سياسي جديد. ويمكن لنا القول: إن أساس الوحدة الفلسطينية أصبح حاضراً، بل ظهرت بالفعل بعضٌ من جوانبها، كمثل «الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية». وتبيّن أيضاً أن العمل الصهيوني المستمر الذي استهدف فصل عرب 48 عن القضية لم يؤتِ ثماره أبداً، وأثبتت أحداث السنوات القليلة الماضية أن الفلسطينيين على المستوى الشعبي، قادرون على تجاوز الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، ولا يمكن فصلهم بالـ «الخط الأخضر».

«طوفان الأقصى» واكتمال حلقات السلسلة

اللحظة التي اختارتها حماس لعملية «طوفان الأقصى» كانت قائمة على أرضية ناضجة، سمحت لها بتحقيق أهداف سياسية وعسكرية غير مسبوقة، فكتائب القسام أثبتت امتلاكها قدرات عسكرية وتنظيمية هائلة أعطتها ميزات كبرى، بمقابل عدو مجهز بشكلٍ جيد ونوعي. وكان للظرف الناضج المحيط دوراً حاسماً في تحويل عملية 7 تشرين الأول إلى عملية نوعية مفصلية، دون أن يقلل ذلك من قيمة كل ما سبقها، أو ما سيأتي بعدها.
أعلن الكيان جملة من الأهداف بعد ساعات قليلة من «طوفان الأقصى» وقدمها بأشكال وصيغ مختلفة، فتحدث عن «إنهاء حماس» «وتهجير القطاع»، «وتحرير «الرهائن»» وغيرها من طروحات لا أساس واقعي لتحقيقها، فتثبيت عجز الكيان عن كل هذا يعني انتصاراً للفلسطينيين، ولا يمكن قياس المعركة عبر إحصاء الخسائر والمقارنات الشكلية، وستثبت الأيام والأسابيع القادمة نتائج عملية حماس بشكلٍ واضح، فالآثار السياسية والعسكرية الكبيرة لم تكتمل بعد، ولا تزال تفاعلاتها تتحضر، ولم نر منها إلا اليسير، فـ «طوفان الأقصى» أحدث جملة من الارتدادات، نراها اليوم في كل المنطقة، ولذلك تحديداً ينبغي رصد كل ما ينتج عنها والبناء عليه لتحقيق أكبر نتائج سياسية ممكنة.

إيقاف المعركة يعني هزيمة «لإسرائيل» والولايات المتحدة، ويثبت قواعد وخطوط اشتباك جديدة، ويضع الكيان مجدداً في مواجهة أزمته السياسية بعد زيادة الضغط بمستويات غير مسبوقة، وفي الوقت نفسه سيكون لهذه المعركة أثر واضح على كل محاولات تسويق تطبيع علاقات الكيان مع دول المنطقة، وستضع الفلسطينيين على طريقٍ جديد، يمكن من خلاله تجاوز كل القضايا الخلافية، والتأسيس لمرحلة جديدة يكون ركنها الأساسي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1147