«جردة حساب» بعد انتهاء العدوان على جنين

«جردة حساب» بعد انتهاء العدوان على جنين

بعد فشل العملية العسكرية لجيش الاحتلال في جنين، عاد إلى الواجهة المشهد المعتاد، وخرجت مظاهرات حاشدة في شوارع تل أبيب رفضاً لخطة التعديل القضائي، الوضع المتأزم يتجه يوماً بعد آخر إلى المزيد من التعقيد، وبالرغم من أن الجزم بمآلات الأمور لا يزال صعباً، إلا أن الحديث المتزايد عن الانقسام الصهيوني الداخلي يؤكد أن «المخارج الآمنة» تضيق أكثر فأكثر!

مع كل عملية عسكرية جديدة يشنها جيش الاحتلال، تميل بعض المنابر لقياس النتائج بمقياس «حجم الضرر» أو «التناسب العسكري» في المعركة، فرغم أن العملية الصهيونية الأخيرة في جنين كانت مدعمة بقوات ضخمة وصل تعدادها إلى أكثر من 150 آلية حربية برية، و1500 جندي، بالإضافة إلى دعم جوي واستخدام الطائرات المسيرة التي أسقط بعضها، لم تكن النتائج كما تمنى الاحتلال، فالمخيم الذي تقارب مساحته نصف كيلو متر مربع يعتبر من حصون المقاومة الفلسطينية المنيعة، التي نجح مقاتلوها المنتشرون هناك من إرباك القوات المهاجمة، وحصار بعضها في عدد من الأبنية والحارات، ما دفع الكيان لإنهاء عمليته بسرعة محاولاً إيهام الرأي العام بأنه نجح في تحقيق مهمته الأساسية منها، متجاهلاً أن رصاص الفلسطينيين رافق قوات الاحتلال المنسحبة ما يثبت أن الهدف الأساسي لم يتم تحقيقه.

ما المختلف هذه المرة؟

الاعتداءات المتكررة لقوات الاحتلال لم تنجح في تحقيق أهدافها منذ زمنٍ طويل، وذلك بالرغم من حجم الضرر في المساكن والبنى التحتية، والعدد الكبير من الشهداء والجرحى الذي يخلفه كل عدوانٍ جديد، لكن ما يثير الانتباه مؤخراً، أن فشل كل محاولة جديدة ترتد إلى العمق الصهيوني بشدة أكبر، ففي البداية أصبح الكيان يدرك أن كل خطوة تصعيدية باتجاه الفلسطينيين ستقابل بالمزيد من العمليات وردود المقاومة، وبالتالي ستزيد الضغط عليه. أما المشكلة الأكبر التي تواجهه، هي أنّ المحاولات المتعددة لتخفيف الضغط الداخلي الناتج عن الأزمة السياسية المستعصية باتت محكومة بالفشل، بل تصبح «المغامرات العسكرية الفاشلة» موضوعاً جديداً للمهاترات وتبادل الاتهامات. وفي هذا السياق يمكن تحديد قضيتين أساسيتين، الأولى: ترتبط بتطورات خطة التعديل القضائي التي ينبغي أن يجري التصويت على أجزاءٍ منها في الكنيست غداً الإثنين 10 تموز. أما الثانية: فترتبط بمؤشرات الانقسام السياسي الداخلي وتداعياته على الكيان في هذه اللحظة بالذات.

مظاهرات مستمرة منذ 27 أسبوع!

بعد تجميد مؤقت لما يعرف باسم «خطة الإصلاح القضائي» التي تتبناها حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عادت هذه القضية إلى الواجهة بعد فشل محاولات البحث عن أرضية للتفاهم حول القضايا الخلافية بين الحكومة والمعارضة، وأعلنت المعارضة تجميدها للمفاوضات مع نتنياهو حتى يتم تنفيذ مطالبها، ما يعني أن جلسة الكنيست القادمة ستكون لحظة لصدام مباشر بين الفريقين بعد محاولة يائسة لتجنبها، ما من شأنه أن يؤجج المشكلة من جديد. خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المظاهرات التي خرجت مساء السبت 8 تموز الجاري، والتي ينظمها المستوطنون للاعتراض على «خطة التعديلات القضائية»، عادت بزخمٍ تجاوز الأسابيع الماضية، إذ نقلت وسائل الإعلام: أن المعارضة نجحت في حشد أكثر من 150 ألف متظاهر في مكان التجمع الأساسي، وذلك إلى جانب عدد من التحركات المتفرقة. وهو ما بدأ يطرح تساؤلات جدّية عن طبيعة الخطوة التالية بالنسبة للمعارضة! إذ أن الحركة الاحتجاجية ورغم أنها شهدت درجة عالية من الاستمرارية، ونجح منظموها بحشد الشارع حتى في فترة إعلان نتنياهو عن التجميد المؤقت للخطة، إلا أن توظيف هذه التحركات بالمعنى السياسي لا يبدو واضحاً، ولا يمكننا القول: إن المظاهرات وحدها قادرة على إعاقة نتنياهو.

تمرد في الجيش أم ماذا؟

تكررت في عدة مناسبات الأنباء عن رفض عناصر من قوات جيش الاحتلال، وتحديداً قوات الاحتياط للالتحاق في نقاطهم العسكرية عند استدعائهم، وجرى تصوير هذه المسألة في وسائل الإعلام على أنها ظاهرة تشبه «الإضراب» في المؤسسات المدنية، إذ يمتنع العمال والموظفون عن الحضور إلى العمل في خطوة احتجاجية على قضية سياسية ما، لكن المسألة هنا تختلف بشكلٍ واضح وذلك رغم محاولات تبسيطها من الإعلام وبعض السياسيين، ففي التطور الأخير في هذا الخصوص، أعلن عشرات من مقاتلي الاحتياط في وحدة قوات النخبة التابعة لسلاح الجو الصهيوني، امتناعهم عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، ويحاول هؤلاء تبرير خطوتهم هذه بوصفها رفضاً لمحاولات الحكومة الحالية تقويض سلطة القضاء، وما سينتج عن ذلك من ضرر في فصل السلطات الثلاث، وتؤكد قوات وحدة «شالداغ» التابعة لسلاح الجو، أن قرارهم هذا «ليس رفضاً وليس تمرداً»، إنما تعبير عن أزمة ثقة في ظل «انتهاك العقد القائم بين الطرفين». لكن ما ينبغي الإشارة له في هذا السياق أن جيش الاحتلال أعلن أنه سيتعامل مع جنود الاحتياط الذين يمتنعون عن الالتحاق بالخدمة العسكرية عبر إجراءات تأديبية صارمة، وأكد أن القرار اتخذ وسيتم التعامل مع «أي حالة من حالات عدم الالتزام بأوامر الاستدعاء سواء أكانت للخدمة أو طلعات تدريبية أو نشاط عملياتي على أنها رفض للأوامر العسكرية». فكيف يمكننا إذاً قراءة تطورات كهذه؟ لا شك أننا لا نشهد حتى اللحظة تمرداً عسكرياً واسع النطاق، لكن رصد بذور تمرد كهذه باتت واضحة وتحديداً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك المحسوب على المعارضة، وأحد المؤثرين في صفوفها، والتي دعا فيها، يوم الخميس 6 تموز الجاري، جنود الاحتياط للعزوف عن الخدمة العسكرية للاحتجاج على خطة «التعديلات القضائية» وقال باراك في هذا السياق: إنه «ينتظر من الطيارين وقوات الاحتياط في هذا اليوم أن يقولوا: «احذر يا نتنياهو، بمجرد أن تحاول تحويل القراءة الأولى إلى قانون (المقصود انتهاء دراسة مشروع القانون)، فإننا لن نخدم الديكتاتورية، نقطة».

الأيام الماضية فرضت على الكيان التعامل مع عدد من الحوادث على جبهات مختلفة ذات طبيعة متنوعة، الأولى: في جنين. والثانية: في غزة. والثالثة: في تل أبيب. وأخرى على الحدود مع لبنان. وحادث أخير في سورية، ما دفع الناطق الأسبق باسم جيش الاحتلال رونين منيليس للقول: إنه في ظل هذه الأوضاع، فإنّ «إسرائيل في منعطف استراتيجي أمني بخصوص الردع، فيما هذا الأمر لا يشغل كثيراً قادة الائتلاف والحكومة، الذين بدل بذل الجهد في هذا، اختاروا حالياً الدفع قدماً بقوانين شخصية وخلافية». أما قائد سلاح البر السابق اللواء احتياط غاي تسور، فقد أكد أن «المشكلة الأكبر التي تواجه «إسرائيل» هي النسيج الاجتماعي الذي يتفكك والجيش الإسرائيلي بداخله».

وأضاف أن «التحدي الأمني الأصعب هو أنّه ليس هناك نسيجٌ وحدٌ يستطيع حمل هذا العبء، وهذا هو الأمر الأساسي الذي يشكل تحدياً «لإسرائيل»».

التحذيرات التي عرضناها عن لسان ضباط سابقين في جيش الاحتلال تصف الظرف الصهيوني الحالي بدقة، فالضغوط التي تعرض لها منذ تأسيسه لم تتوقف، ولا يمكن القول: إن المقاومة الشعبية قد توقفت بأي لحظة منذ عام 1948 وحتى واليوم، لكن المأزق الكبير في الكيان أن ذلك يجري اليوم مضاعفاً، وفي الوقت الذي ينقسم المجتمع في الداخل بشدة، ولا يمر هذا الانقسام لا بالأوساط السياسية فحسب، بل بات إلى جانب حضوره الواضح في الشارع، سمة حاضرة في كل مؤسسات الكيان حتى الأمنية والعسكرية، التي يمكن لها أن تدفع الأمور باتجاه حرب أهلية حقيقية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1130
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:27