ماذا يعني تعثر «الاتفاقيات الإبراهيمية» وتعطيل ثمارها؟
حالة الإضراب التي تحيط «إسرائيل» لم تعد مؤقتة، بل أصبحت حالة ملازمة، ولم يعد ممكناً النظر إلى كيان الاحتلال، دون أن تُلحظ غمامةٌ السوداء تحيط به من كل الاتجاهات، تُنبئ بأن الأيام القادمة ستكون أكثر قسوة، وتبشّر في الوقت ذاته؛ بأن الظرف الموضوعي لحل القضية الفلسطينية لم يكن أنضج مما هو عليه اليوم!
التفاؤل بحل القضية الفلسطينية، وبالرغم من أنه أصبح أكثر حضوراً في خطاب عدد من القوى السياسية والأطراف الدولية المؤثرة، إلا أنه لا يزال مستهجناً بالنسبة للبعض، تحديداً أولئك الذين اعتادوا الخيبات الكثيرة التي رافقت القضية منذ عام 1948، لكن نظرة متأنية لبعض المسائل المحورية كافية لتقديم إجابات بعيدة عن المواقف الانفعالية اللحظية.
مأزق الكيان
في عام 2020، وعندما بدأ الحديث عمّا عرف باسم «الاتفاقيات الإبراهيمية»، التي بدأت بتوقيع اتفاق لتطبيع العلاقات بين الإمارات والكيان، كان لا بد حينها من فهم مغزى هذا التوجه، لا بالنسبة للدول التي وقّعت هذه الاتفاقيات المشينة فحسب، بل بالنسبة للراعي الأساسي للعملية ككل، ونقصد تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية. فصناع القرار في واشنطن- أي القوى العابرة للإدارات المختلفة- كانوا يدركون أن وجود الكيان قدّم خدمات كثيرة للسياسات الأمريكية في منطقتنا، وكان ذراعاً ضارباً أساسياً في تنفيذ الجزء الأكبر من المخططات القذرة. ومن هذه الزاوية كان لابد بالنسبة لواشنطن من البحث عن آلية لضمان بقاء الكيان بشكله هذا لأطول فترة ممكنة، حتى وإن كانت الولايات المتحدة مضطرة لإعادة تمركزها في مناطق أخرى أكثر خطورة بالنسبة لها. ومن هنا جاءت ضرورة «الاتفاقيات الإبراهيمية» بالنسبة لواشنطن، إذ كان الهدف منها أن تؤمن آلية لدمج الكيان الهجين مع دول محورية في محيطه، ما يضمن أمنه من جهة، ويثبّت حجر الأساس لبناء تكتل من دول المنطقة لمواجهة معلنة مع إيران، يكون المستهدف من خلفها روسيا والصين أمريكياً.
«الاتفاقيات الإبراهيمية» تحت المجهر!
الدوافع الأمريكية لتوسيع معاهدات التطبيع مع الكيان لم تكن «ترفاً» بل كانت طريقاً إجبارياً أمِلت واشنطن من خلاله الحفاظ على الكيان ضمن الظرف الجديد، وعلى هذا الأساس كان أي تعثر أو تباطؤ في هذه المسألة، ومن وجهة النظر الأمريكية تحديداً، يعني ارتفاع حجم الأخطار الوجودية التي تهدد «إسرائيل»، الأخطار التي بات الحديث عنها موضوعاً أساسياً ويومياً في صحافة الكيان الذي يدرك أيضاً حجم المصيبة.
وبالرغم من كل الجهود الأمريكية التي بذلت في هذا الخصوص، إلا أن النقلة القادمة في مشروع التطبيع في المنطقة تعثّرت حتى اللحظة، والحديث يدور هنا عن السعودية تحديداً. فالمملكة تعتبر قوة إقليمية جدّية، ولا نبالغ إن قلنا: إن وجود السعودية أو عدمه يمكن أن يكون حاسماً في نجاح المخطط الأمريكي- الصهيوني. فبناء التكتل الذي أشرنا إليه يحتاج دعماً وقبولاً وانخراطاً سعودياً، لكن التوجهات الأخيرة للرياض بدت وكأنها تسير في الاتجاه المعاكس تماماً، فالمواجهة مع إيران لم تعد موجودة على الأجندة المعلنة للمملكة، لا بل إن استئناف العلاقات مع طهران غيّر المزاج اتجاه الأخيرة من قِبل عددٍ من دول المنطقة، التي بدأت تسرع الخطى لإنجاز تفاهمات مشابهة لتلك التي جمعت السعودية وإيران. وهو ما يفسر أهم أسباب الفشل الأمريكي المستمر لجر المملكة للتوقيع مع الكيان.
«التطبيع مع السعودية قد يكون مستحيلاً»
زار وزير الخارجية الأمريكي السعودية مجدداً، وجاءت هذه الزيارة كخطوة ثانية بعد زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وكان من الملفت للانتباه، أن وسائل الإعلام السعودية المحلية لم تعط لهذه الزيارة مساحة كافية على صفحاتها، وتردد في بعض المنابر الإعلامية أن وزير الخارجية الأمريكي انتظر 3 أيام حتى استطاع مقابلة ولي العهد السعودي، وبغض النظر عن صحة هذه الأنباء، كانت نتائج الزيارة واضحة. فالجميع يعلم أن موضوع التطبيع كان البند الأول في جدول أعمالها، إلا أن التصريحات المختلفة التي تلت الحدث، برهنت أنّ واشنطن لم تستطع إحراز أيّ تقدم، لا بل إن بلينكن أعلن صراحة أن سلوك الكيان الصهيوني يجعل من إمكانية التطبيع مع السعودية «مسألة صعبة إن لم تكن مستحيلة». وزير الخارجية رد فشل واشنطن في تحقيق أهدافها إلى سلوك حكومة بنيامين نتنياهو، لكن تصريحات سفيرة السعودية لدى واشنطن قدمت تفسيراً ضمنياً آخر، إذ أشارت ريما البندر في تصريحات نُقلت عنها من الولايات المتحدة، أنّ بلادها لا تسعى للتطبيع، بل فضّلت البندر استخدام مصطلح «الاندماج أو التكامل» الذي يأتي كنتيجة لحل للقضية الفلسطينية، وأشارت إلى أنَّ «أيّ حل للنزاع يجب أن يأتي بسلام عادل وكرامة معيشية للطرفين» مؤكدة، أن التوصل إلى اتفاق سلام «إسرائيلي» فلسطيني، يتماشى مع رؤية 2030 التي تعمل عليها المملكة. ما يؤكد مجدداً أن السعودية تضع تنفيذ بنود المبادرة العربية للسلام شرطاً سابقاً لإقامة علاقات مع الكيان. وفي الوقت نفسه ترسل الرياض رسائل دائماً تؤكد حزمها في هذه المسألة، كان آخرها رفضها استقبال ممثلي الكيان المدعوين لحضور اجتماعات لجنة التراث العاملي المقررة في السعودية في شهر أيلول المقبل.
تأجيل رابع لقمة النقب!
الحديث عن عراقيل بوجه توسيع «الاتفاقيات الإبراهيمية» يبدو واضحاً، لكن مسألة أخرى بالغة الأهمية لا تلقى الضوء نفسه، وهي التأجيل الرابع لقمة النقب الثانية، التي كان من المفترض أن تعقد في المغرب الشهر المقبل. فهذا الحدث يعد الثمرة الجوهرية للاتفاقيات الموقعة، إذ أعلن عن هذا التجمع بوصفه الإطار الرسمي الذي يجمع الدول المطبعة مع الكيان والولايات المتحدة، والغرض منه تنسيق الجهود الأمنية والسياسية والاقتصادية بين هذه الأطراف، ولما عُقدت «قمة النقب الأولى 2022»، أُعلن وقتها أن المجموعة ستنظم لقاءها سنوياً، لكنها توقفت وجرى تأجيلها عدة مرات حتى الآن. السبب الرسمي للتأجيل الأخير الذي قدمه وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، كان مقتضباً ورده إلى «مشاكل في جدول الأعمال والأجواء السياسية غير المواتية». كلمات بوريطة البسيطة توضح ضمنياً السبب الفعلي للتأجيل، فالخلاف على جدول الأعمال يعني أن أجندات الدول المشاركة لا يمكن التوفيق بينها في هذه اللحظة، «والأجواء السياسية غير المواتية» كانت السبب لتأجيل القمة أربع مرات حتى اللحظة، ولا يبدو أن هناك دلائل لتغير هذه الأجواء قريباً، ما يعني أن مصالح وحسابات الأطراف التي جلست في النقب للمرة الأولى تغيرت، ولم يعد عقد هذا اللقاء يتلاءم مع السياسات الحالية للدول العربية. واستناداً لذلك لا يعد مستبعداً ألّا تعقد أبداً!
للتغطية على هذا التعثر يسعى الكيان لخلق «إيهام بالحركة»، إذ تداولت وسائل الإعلام الصهيونية خبراً مفاده أن هناك مساعٍ لتوسيع قائمة المدعوين للنقب، لتشمل الصومال وجزر القمر للحضور بصفة مراقب! ليبدو كما لو أن المنتدى حقق تقدماً ما. فرغم أن انضمام أية أطراف جديدة لمنتديات كهذه لا يمكن أن يكون تطوراً إيجابياً إلا أنه تفصيل صغير لا يغير في طبيعة المشكلة، بل يحاول خلط الأوراق، وليبدو أن هناك تقدماً يجري بعد أن فشل الكيان وواشنطن في تحقيقه في الواقع.
واشنطن التي تحاول استدراك الموقف، عيّنت منذ أيام مبعوثاً لتطوير «اتفاقيات أبراهام»، وهو دان شابيرو، السفير الأمريكي السابق لدى «إسرائيل». المهمة الموكلة للدبلوماسي الذي يحمل الجنسية «الإسرائيلية» لن تكون سهلة «بل ربما تكون مستحيلة» فالعراقيل التي تسعى الإدارة الأمريكية لإزاحتها تزداد يوماً بعد آخر بدل أن تنقص! وإذا برهنت الأيام صدق هذا التقدير، ينبغي علينا إذاً أن نطرح سؤالاً جدياً على أنفسنا، إن كانت اتفاقيات التطبيع المخرج الوحيد الذي توقعت واشنطن أن تضمن من خلاله بقاء الكيان، فماذا يعني فشل هذا المشروع أو تحوله إلى هياكل فارغة؟ وإذا أضفنا إلى كل هذا عدداً من تحولات كبرى على الساحة الدولية، هل يظل الحديث حينها عن حل جذري للقضية الفلسطينية حديثاً منفصلاً عن الواقع؟ أم يكون تغييب هذه الفكرة والتمسك بانكسارات الماضي ضرباً من الجنون الصرف؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1129