«قمة شيان» تعزيز للتضامن الآسيوي ومواجهة ما تبقى من نفوذ غربي

«قمة شيان» تعزيز للتضامن الآسيوي ومواجهة ما تبقى من نفوذ غربي

تمضي الصين بشكل مستمر وثابت في خُطا إعادة ترتيب موازين القوى العالمية والخريطة التجارية والجيوسياسية الدولية، بالتعاون مع حلفائها وأصدقائها الدوليين، في مختلف المناطق وعبر كافة المنصات الدولية الممكنة القديمة منها والجديدة. كانت آخر قفزة في هذا الاتجاه، القمة التي جمعت الرئيس الصيني شي جين بينغ مع رؤساء دول آسيا الوسطى الخمس، في مدينة شيان يومي 18 و19 من الشهر الجاري، قمة شكلت مفصلاً تاريخياً جديداً، جاء نتيجة تطورات عدة سابقة، ومعلناً تطورات جديدة قادمة.

افتتح الرئيس الصيني كلمته بالحديث عن مدينة شيان، التي استضافت الرؤساء الـ 6 تحديداً، لما تحمله من رمزية تاريخية، حيث كانت «نقطة بداية طريق الحرير من الطرف الشرقي قبل 2100 عام» ومشيراً إلى أنه وخلال زيارته الأولى كرئيس صيني إلى منطقة آسيا الوسطى قبل 10 أعوام بالضبط، أعلن من هناك عن مبادرة الحزام والطريق الجديدة، مشيداً بموقع آسيا الوسطى الجغرافي والسياسي، بكونها تربط الاقتصاد العالمي شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
وكثف جينبيغ خلال كلمته أهداف القمة ومواضيعها، مشيراً إلى الحاجة الدولية لمنطقة آسيا الوسطى، بأن تكون مستقرة ومزدهرة ومتجانسة ومتصلة، موضحاً رؤية الصين لعلاقاتها مع دول المنطقة بـ 4 نقاط أساسية: المساعدة المتبادلة، والتنمية المشتركة، والأمن العام، والصداقة الدائمة التي تتضمن كل واحدة منها طيفاً واسعاً من الأفكار والرؤى ذات المصلحة المشتركة استراتيجياً بين هذه الدول.

القيمة الاقتصادية

خلال السنوات الماضية، كثفت الصين من استثماراتها الاقتصادية وعلاقاتها التجارية مع دول آسيا الوسطى الـ 5: كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، وتحديداً منهم الدول الثلاث الأولى المرتبطة بها حدودياً، حيث قامت بإنشاء مشاريع بنى تحتية واسعة، من بينها محطات كهربائية وأنابيب طاقة وطرق عبور وتطوير تكنولوجي وغيرها، وقد بلغ التبادل التجاري بين الصين ودول المنطقة 70 مليار دولار، بالمقارنة مع 460 مليون دولار قبل 3 عقود. وأعلن جينبينغ: أن بكين ستقدم 26 مليار يوان، ما يعادل 3.7 مليار دولار، كمساعدات مالية ودعم لتعزيز التعاون بين بلاده ودول منطقة آسيا الوسطى وتنميتها.
إذا ما كان إعلان مبادرة الحزام والطريق قبل 10 سنوات قد جاء وسط ظروف ما تزال الولايات المتحدة الأمريكية فيها تحظى بوزن واحترام دولي ما، وتم خلال مدة هذا العقد على الأقل تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية للصين مع المنطقة، فإن القمة الأخيرة من شيان تعلن تثبيت هذا الاتجاه الاقتصادي والتجاري، وفتحت الباب واسعاً أمام تطوير علاقات سياسية وأمنية ودفاعية للمنطقة مع الصين، بلحظة يتراجع فيها الغربيون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة بشكل متسارع.

تعاون سياسي وأمني ودفاعي

على المستوى الأمني والدفاعي، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ، دول آسيا الوسطى إلى ضرورة التصدي لـ «الثورات الملونة» التي تدفع بها قوى أجنبية في المنطقة، وإلى ضرورة التصدي للتدخل الخارجي بالشؤون الداخلية بكافة أشكاله، وإلى الالتزام بعدم التسامح مع الإرهاب والانفصالية، قائلاً: «يجب على الدول الست أن تتصدى بحزم للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وكذلك لمحاولات إثارة «الثورات الملونة»، كما يجب عليها التمسك بعدم التسامح المطلق مع «القوى الثلاث» المتمثلة في الإرهاب والانفصالية والتطرف».
وأعلن الرئيس الصيني، أن بكين مستعدة لمساعدة دول آسيا الوسطى ببناء قدراتها الدفاعية في مجالات إنفاذ القانون والأمن والدفاع، ليعتبر الرئيس الصيني، أن القمة دشنت «حقبة جديدة» في العلاقات بين بلاده ودول آسيا الوسطى الخمس، داعياً إياها إلى «الانضمام إلى قطار تنميتها السريع لنبني معا مستقبلا أفضل».

الصين وروسيا والمصلحة المشتركة

تعم الأوساط الإعلامية والسياسية بغالبيتها تحليلات وآراء، ترى أن هذه القمة والخطوة الصينية تجاه دول آسيا الوسطى، تحديداً بالشق السياسي والدفاعي منه، تشكل بديلاً، أو حتى تحدياً لروسيا ونفوذها في المنطقة، خاصة وأن الدول الـ 5 كانت جمهوريات سوفييتية سابقة، وما تزال حتى الآن تستند بدرجة كبرى على وزن موسكو بالجانب الدفاعي، مستندين بذلك إلى أن المعركة في أوكرانيا قد دفعت هذه الدول للتخلي عن روسيا نحو إيجاد بدائل عنها. ومن جهة أخرى، يرى هؤلاء أيضاً، أن هذه التحركات الصينية الاقتصادية والجيوسياسية تجاه المنطقة وفقاً لمبادرة الحزام والطريق الدولية تُناقض مشروع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الروسي.
تشترك هذه التحليلات السائدة حالياً مع مساعي وأمنيات الولايات المتحدة بخلق خلاف وشقاق صيني– روسي حتى وإن كان خيالاً كما يجري الآن.
تقدّم كل من الصين وروسيا بالدرجة الأولى، إضافة إلى الهند وإفريقيا والبرازيل حالياً، نموذجاً اقتصادياً وسياسياً دولياً جديداً مختلفاً جذرياً عمّا كان سائداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، تُسميه هذه الدول بالمضي نحو التعددية القطبية، وفقاً لسياسات التعاون والتكامل والتضامن الشعبي، خلافاً للأحادية القطبية والهيمنة الغربية. أياً يكن مسمى هذا الميزان الدولي الجديد، إلا أنه يناقض منهجية وعقلية الميزان السابق.
ففي حين تعبّر هذه التحليلات عن طموحات وخيالات الولايات المتحدة بوجود تنافس سلبي بين الصين وروسيا، و«انتهاز» الأولى فرصة انخراط موسكو بحرب عسكرية في أوكرانيا، لتأخذ مكانها وحصتها من التعاون السياسي والدفاعي مع آسيا الوسطى، نرى أنّ هذه الخطوات الصينية تتكامل مع روسيا وتتقاطع معها بالمصلحة المشتركة في الدفاع عن المنطقة الآسيوية ككل، ليس الوسطى وحدها، بالمواجهة الدولية الجارية مع الغربيين على كافة الصعد، إذ يتحول دور الصين بشكل متسارع في تلك المنطقة إلى عامل استقرار إضافي، وهو ما يصب في المصلحة الاستراتيجية لروسيا. من جهة أخرى، وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، من غير المفهوم تماماً لماذا قد يظنّ أي أحد أن مبادرة الحزام والطريق الدولية وتعزيزها بما تتضمنه من مشاريع اقتصادية وتجارية وتنمية في منطقة آسيا الوسطى أو غيرها، قد تتناقض مع أية مشاريع اقتصادية أخرى. فعلى العكس منه، كلا المشروعين، الصيني ومبادرتها الدولية، والروسي بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي، يتطلبان ويكملان بعضهما البعض، ويتشاركان ويتقاطعان مرةً بعد أخرى، بالمصلحة المشتركة لإبعاد الهيمنة والنهب الغربي والأمريكي عن المنطقة وشعوبها.

إن المتضرر الوحيد والفعلي من هذه القمة بمخرجاتها، وما تضمنته، هي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، عبر قص ما تبقى من أذرعهم في آسيا الوسطى، بل ودفع هذه الدول بشكل مباشر وواضح لتحدّي أي نفوذ أمريكي متبقٍ فيها، خلف مساعي الحدّ من التدخلات الخارجية، ومواجهة الثورات الملونة، وتعزيز التعاون الأمني والدفاعي بينها وبين الصين وروسيا مجتمعتين. بينما الرابح الأول والأخير منها: هي شعوب المنطقة نفسها، بالتحرر من الهيمنة الغربية وتنمية بلادهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1124