«دروسٌ ثلاث» ينبغي أخذ العبرة منها

«دروسٌ ثلاث» ينبغي أخذ العبرة منها

التطورات التي شهدتها المنطقة مؤخراً، ثبّتت مساراً جديداً لم يكن بملامحه الحالية قابلاً للتصديق، حتى قبل سنوات قليلة من اليوم، فالتحالفات والاصطفافات تتغير بسرعة، لتغير معها مشهداً ظل راسخاً لعقودٍ مضت، تكاد الذاكرة القريبة لأجيال اليوم لا تعرف سواه.

طرح الأسئلة البسيطة، لا يعني أن الإجابة عنها ستكون مهمة يسيرة، فإذا وضعنا أمامنا مهمة الإجابة عن سؤالين، مثل: ماذا يجري من حولنا؟ ولماذا؟ سنجد أننا أمام جملة من التفاصيل الكثيرة والمتشابكة، وإذا أردنا إيجاز أبرز ما جرى في منطقتنا في العقد الماضي، يمكننا أن نقول: إنه جاء في بدايته كتسارع كبير في مشروع الفوضى الأمريكي، فكان احتلال العراق، ثم تحوّلت مجموعة من الأزمات الداخلية في بلدان المنطقة إلى بؤر توتر إقليمي، فإلى جانب العراق المضطرب والمنهوب تحوّلت بلدان مثل: سورية وليبيا واليمن إلى حرائق كبرى، أثرت بشكلٍ كبير على الأمن الوطني لكل الدول المحيطة. ومن هنا يمكننا القول: إن الأسباب الداخلية العميقة لكل من هذه الأزمات لا تنفي مطلقاً وجود خيوط تربط بينها، التي جعلت من جملة هذه المشاكل الداخلية والإقليمية كتلة ضغط مؤثرة على المستوى العالمي.
وفي سياقٍ كهذا، يمكننا عرض أمثلة ثلاث، أسهم بعضها بشكلٍ ملحوظ بالتطورات الأخيرة، ويمكن لبعضها الآخر أن يؤشر إلى السمت العام الذي يمكن أن تتطور باتجاهه الأحداث القادمة.

تركيا «الانتقال الكبير»

اللحظة الفاصلة التي ظهرت على السطح وأمام الجميع، هي اللحظة التي جرت فيها محاولة الإطاحة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2016، التي سرعان ما ثبت تورط الولايات المتحدة في التخطيط لها وتنفيذها. مما سرّع التحولات داخل تركيا، فهذا التورط جاء بمنزلة دليل دامغ ونهائي على أن استقرار الجمهورية التركية لم يعد ينسجم مع المصالح الأمريكية في المنطقة، فمحاولة الاغتيال لم تستهدف أردوغان، بقدر ما كانت محاولة لضرب التيار السياسي التركي، الذي بدأ يتخذ في حينه خطوات ملموسة لتثبيت مكان لتركيا إلى جانب دول الشرق الصاعدة، التي أظهرت آفاق العلاقة بها أنها قادرة على دفع تركيا لإنجاز نقلة جديدة على المستوى الاقتصادي والسياسي، تتجاوز ذلك الإطار المحدود الذي فرضه الغرب عليها. وهو ما عنى بالنسبة لواشنطن بداية لانتقال تركيا من الحضانة الغربية المؤقتة نهائياً. ولذلك لم يكن المطلوب أمريكياً استبدال أردوغان وإزاحته عن الحكم فحسب، بل تحويل تركيا إلى بؤرة توتر كبرى، وربما جرّها إلى حرب أهلية قادرة على تفتيتها وتقسيمها عبر تفجير تناقضاتها الداخلية، قبل أن تنجز «رحلة العودة إلى الشرق».
هذا التكثيف السابق، كفيل بتفسير عملية تحوّل عميقة تجري في تركيا، التي خضعت للهيمنة الغربية بعد اتفاقية لوزان 1923، وتحوّلت إلى مكوّن أساسي في حلف الناتو عام 1953، وذلك بعد تأسيسه بفترة قصيرة. ويعتبر تاريخ علاقة تركيا بالغرب والولايات المتحدة العائق الأصعب أمام البعض في تفسير الاستدارة الجارية، وخصوصاً في ضوء تجاهل الفهم العميق للمصلحة التركية، التي دخلت في تناقض وجودي مع المشروع الغربي، وتحولت لذلك إلى عامل حاسم في كلّ ما جرى.

«السُّعُودية- إيران» معجزة أم ماذا؟

قد تكون المصالحة الإيرانية السُّعُودية برعاية بكين أحد أكثر القضايا العصية على الفهم بالنسبة للبعض، وخصوصاً بعد عقود طويلة من التناحر، طُبعت في ذاكرة الجميع، فرغم إقرار هؤلاء بأن أطرافاً خارجية أدّت دوراً في تغذية هذا الخلاف، إلا أن حجم التناقضات بين السُّعُودية وإيران بدا لهم كما لو أنه عصِيّ على الحل أو التجاوز. وبغض النظر عن تفاصيل هذا التقارب والعقبات المؤقتة التي يمكن أن تظهر بوجهه، وهو ما يجري معالجته على نطاق واسع في التحليلات، فإنه تحوّل سريعاً إلى مثال حيّ أمام شعوب المنطقة، وأثبت لهم أن التناقضات الكبرى التي هددت وجودهم، كان من الممكن تجاوزها فعلاً وإيجاد توافقات مرضية لجميع الأطراف تضمن مصالحهم، ما يلغي احتمال التفجير والدفع إلى حرب لا تبقي ولا تذر، وهو تماماً ما حاولت واشنطن زرعه في عقول الجميع. أما اليوم فتظهر هذه المصالحة ذات تأثير أوسع، وتدفع شعوب منطقتنا لإعادة التفكير بكل «المسلّمات» التي كان من «المحرّم» نقاشها أو التفكير بها. فإذا كان التوافق السعودي الإيراني ممكناً، فلن يشكك أحد بإمكانية إنجاز تفاهمات نهائية بين تركيا ومصر، وتركيا ودول الخليج. بل إن تفاهم «المعسكر السني» مع «المعسكر الشيعي» يفتح الباب أمام «مصالحات» على مستوى الأديان والقوميات والأديان الأخرى، بعد أن تحوّلت التناقضات الثانوية فيمًا بينها تحت ضغط الاستعمار إلى ألغام جاهزة دائماً للتفجير.

السودان رسالة التحذير الأخيرة

بعد سنوات من حالة عدم الاستقرار التي شهدها السودان، التي أعقبت عقوداً سوداء من صراعات أهلية انتهت إلى تقسيمه، يظهر اليوم خطر جدي جديد لخلق بؤرة توتر تقع على حدود مصر والسعودية، لتكون مصدراً جديداً للاستنزاف بعد اليمن وليبيا، وهو ما يطرح السؤال في القاهرة والرياض مجدداً: هل يمكن التوفيق بين مصالحنا ومصالح الأمريكيين التي تقتضي إحراق المنطقة؟ فبعد أن ظنت بعض الدول في الإقليم، أن وجودها تحت العباءة الأمريكية يمكن أن يحميها من الاستهداف والتفجير، تبيّن أن المسألة ليست إلا مسألة وقت، وستفرض أزمة الرأسمالية توسيع رقعة الحريق، ليشمل القاهرة والرياض وغيرها من العواصم. تفجير السودان في هذا التوقيت يعني تهديداً إضافياً ومباشراً للأمن الوطني المصري والسعودي معاً، بالإضافة إلى المأساة التي سيتحملها السودانيون. ولذلك يبدو أن إيجاد مخرج من هذا المأزق موضوع حالياً على رأس جدول أعمال كلٍ من مصر والسعودية.

الأمثلة الثلاث التي جرى عرضها- ليست كما بيّنا- إلاّ عيّنة من قائمة طويلة، ما يهم هو أن الدول المؤثرة في الإقليم وصاحبة الأوزان الأساسية باتت قادرة على تحديد الخطر، أو ربما كانت تدركه منذ زمن، لكن توازنات القوى في حينه لم تسمح لها بالتحرك، وهو ما اختلف الآن، نقف أمام لحظات مفصلية حقيقة، ففي تركيا تنتهي اليوم الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وستحدد الأيام المقبلة فرص نجاح الولايات المتحدة في دفع تركيا نحو الفوضى، وفي السودان، لا مجال أمام السعودية ومصر وغيرهما من الدول المتضررة، إلا البحث عن مخارج سريعة، واحتواء الصراع الدائر بأقل الخسائر الممكنة. وأما الاتفاق السعودي الإيراني، فعليه أن يثبت أن قادر على تجاوز الضغوط التي يتعرض لها، وأنه مثال قابلٌ للتعميم. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1124