جولة جديدة من الانتخابات التركية… على ماذا يختلف المرشّحان؟
بعد انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات التركية دون أن يحصل أيٌ من المرشحين على نسبة تخوله لحسم الانتخابات، أعلنت الهيئة العليا تحديد موعد جديد لعقد جولة جديدة، ينحصر فيها التنافس بين رجب طيب أردوغان عن «تحالف الشعب» وكمال كيليتشدار أوغلو عن «تحالف الأمة».
الاهتمام الذي تلقاه الانتخابات التركية أضحى أوسع بكثير من حدود تركيا نفسها، وفي الوقت الذي يحاول البعض تفسير هذا الاهتمام بوصفه «توقاً لعملية ديمقراطية تجري في منطقتنا» يبدو جلياً أن أسباباً أخرى دفعت هذه الانتخابات تحديداً إلى الواجهة لا في منطقتنا فحسب، بل في مناطق أخرى من العالم. وقد نشرت مجلة بوليتكو الأمريكية مقالاً في أواسط شهر نيسان الماضي وصفت فيه هذه الانتخابات بأنها الأهم في 2023 واستعرضت ضمنه بعض الملفات التي تتقاطع الاهتمامات حولها، والتي ستكون لها آثار أوسع من حدود تركيا، ويمكن رصد عدد كبير من المقالات الأخرى التي تعالج هذه المسألة، بالإضافة إلى تصريحات السياسيين والأتراك الذين خاض بعضهم هذه الجولة الانتخابية.
خصوصية المرحلة
شهدت تركيا في السنوات الماضية جملة من التطورات التي بدأت تفرض على البلاد اتخاذ قرارات صعبة، وفي الوقت الذي يبدو أن حصر هذه القرارت ومجالات تأثيرها أمراً صعباً، يظل تحديد خطوط تأثيرها العريضة مسألة ضرورية.
يكاد يكون من المستحيل فصل القضايا التي يجري الحديث حولها عن بعضها البعض، فتركيا دخلت مرحلة حاسمة تشابكت فيها قضاياها الاقتصادية- الاجتماعية مع القضايا الوطنية والديموقراطية الأخرى، بشكل لم يعد من الممكن معه الحديث بشكلٍ منفصل عن أيٍ من هذه المسائل منفردة، ويضاف إلى ذلك أن السياسة الخارجية التي تتبناها البلدان يُفترض أن تعبّر بشكلٍ حاسم عن مصالح هذا البلد ومصلحة شعبه، ومن هذه النقطة تحديداً لا يمكن عزل المواقف المعلنة حول السياسة الخارجية مثلاً عن كل ما يجري، أو التعامل معها بمعزل عن انعكاساتها في الداخل التركي.
إذا ما نظرنا إلى التطورات التي شهدها العقد الماضي يمكننا التأكد أن الوزن التركي- حتى بعد تجاهل محاولات تضخيمه- يبقى وزناً مؤثراً في عدد كبير من المسائل، ولاحظنا أن تركيا كانت طرفاً حاضراً في الأزمة السورية، بالإضافة إلى كونها أحد أهم المؤثرين في الملف الكردي، الذي يتوزع في داخل تركيا وسورية والعراق وإيران، وكان الوزن التركي مؤثراً في شرق البحر المتوسط في قبرص واليونان وصولاً إلى ليبيا. أما بما يخص أوروبا، فتركيا كانت ولا تزل عضواً في حلف الناتو، وهو ما يفسر جزءاً من الاهتمام الغربي بكل التغييرات التي تحصل في النظام السياسي هناك، واستطاعت تركيا أن تؤدي دوراً في عدد من المناسبات منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، مثل: الدور الذي أدته في إتمام صفقة الحبوب، أو أهميتها الاستراتيجية بكونها المتحكم بمضيقي الدردنيل والبوسفور. يضاف إلى ذلك جملة من المسائل بالغة الأهمية، كالاتفاق مع روسيا على بناء محطات طاقة نووية في تركيا، أو الحديث عن إمكانية تحويل تركيا لمركزٍ عالمي لتوزيع الغاز، هذا بالإضافة إلى الدور الذي تركيا قادرة على أدائه في ربط آسيا وأوروبا عن طريق آسيا الوسطى.
على ماذا تختلف التحالفات المتنافسة؟
لا شك أن خريطة التحالفات السياسية الحالية لا تعكس بالضرورة تقاطعات برنامجية حقيقية، وربما أنها لا تعبّر عن خطوط الفصل الفعلية بين القوى السياسية، وخصوصاً أن هذه القوى السياسية بالذات تعيش مرحلة حاسمة، تجري ضمن صفوفها عمليات فرز كبرى، وإعادة صياغة وضبط لتوجهاتها العامة والتفصيلية، وفي مجمل المسائل. إلا أن التخوم بين الفريقين المتخاصمين تبدو واضحة في عدد من القضايا الكبرى، وخصوصاً إذا ما تركنا الدعاية الانتخابية جانباً. فيحاول الطرفان تقديم حلول ومخارج للقضايا الملحة، مثل: «المهاجرين واللاجئين» و«الموقف من القضية الكردية» و«العلاقة مع الغرب وروسيا» وصولاً إلى مشكلة التضخم وتعويض المتضررين من الزلزال الأخير.
معدلات الفائدة
ومن ضمن الأمثلة التي يمكن تقديمها، الموقف من سياسة خفض الفائدة التي تبناها الرئيس التركي المنتهية ولايته. ففي الوقت الذي ترفض المعارضة التركية هذه السياسة، يتمسك أردوغان بها ولا ينوي تغييرها. فهذه السياسة وبالرغم من كونها لم تعطِ نتائج سريعة وملموسة على الاقتصاد التركي الذي يعاني من التضخم. وشكّل اعتمادها موضوعاً لاحتجاج عدد من الاقتصاديين الليبراليين، إلا أنها تعبّر وضوحاً عن توجهين مختلفين، الأول: يتمسك بوصفة غربية محددة للتعامل مع تغيرات الاقتصاد العالمي، والتي تفرض تبني سعر فائدة مرتفع، يسهم في تقليل الكتلة النقدية المتداولة، في المقابل، يصر التيار الآخر الذي يقوده أردوغان على اعتماد سياسة مختلفة تخفض وفقها معدلات الفائدة ما يمكن أن ينشط حسب واضعي هذا التوجه الاقتصاد، ويؤدي في ظروف محددة إلى علاج مشكلة التضخم من زاوية مختلفة.
في السياسة الخارجية
يختلف الفريقان بوضوح على الملامح الأساسية في السياسة الخارجية، إذ يظهر تيار كيليتشدار أوغلو أقرب إلى الغرب ويسعى علناً إلى تجاوز الرواسب التي تراكمت في علاقة تركيا معه، فيرى أن هوية تركيا كجزء من حلف الناتو مسألة أساسية لا ينبغي تشويهها بعلاقات متينة مع روسيا والصين، وتعاون اقتصادي وأمني وعسكري، وخصوصاً أن حلف الناتو يرى في دول الشرق هذه عدواً أو خطراً محتملاً، ويسعى تحالف الأمة أيضاً إلى إيجاد طريقة لإعادة تركيا إلى برنامج تطوير طائرات F 35 الأمريكية، دون الأخذ بعين الاعتبار أن قرار إبعاد أنقرة من هذا البرنامج كان قراراً أمريكياً وجاء رداً على قرار سيادي تركي باعتماد منظومة S-400 الدفاعية الروسية، بعد رفض الغرب تزويد تركيا بمنظومات الدفاع الضرورية.
الشرق أم الغرب؟
بعد الجوانب التي تم الإشارة إليها، يظهر بوضوح أن موقع تركيا على الساحة الدولية هو موضوع محوري في الانقسام الجاري، وعلى الرغم من أن الواقع لم يثبت بعد بشكلٍ حاسم ونهائي جذرية توجهات أردوغان بالاتجاه شرقاً، إلا أن شعارات التيار المقابل تعلن عن توجه مناقض تماماً ودون مواربة. فـكيليتشدار أوغلو يعبّر صراحةً عن موقف حاد تجاه روسيا، ويرى أن مستقبل تركيا ينبغي أن يكون عبر تمتين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، وإعادة إحياء المفاوضات حول انضمام تركيا للاتحاد المتوقفة منذ 2018، والتي يشترط الاتحاد الأوروبي لاستئنافها إدخال «إصلاحات ليبرالية وإرساء سيادة القانون وحريات وسائل الإعلام ونزع تسييس القضاء». من جانب آخر، يظهر أن العلاقة مع الولايات المتحدة تعتبر مسألة أساسية في هذا الانقسام، وظهر ذلك وضوحاً بعد اللقاء الذي جمع كيليتشدار أوغلو والسفير الأمريكي في أنقرة، الذي اعتبره أردوغان تدخلاً بالشؤون الداخلية والانتخابات التركية، وتعهد بـ «تلقين الولايات المتحدة درساً في الانتخابات».
ربما يكون تأثير المسائل الموضوعة على الطاولة في تركيا اليوم حاسماً، فلا يبقى للشعارات المرفوعة هامش كافٍ للمناورة، كيف يمكن أن تحقق تركيا مستويات التنمية المطلوبة؟ وكيف يمكن لها أن تتجاوز مشكلة التضخم ونتائجها الكارثية بعيداً عن وصفات الغرب البالية؟ كيف يمكن لها أن تخرج من الأزمات المحيطة بها موحدة؟ كلها هذه الأسئلة وغيرها الكثير، سيجد المنتصر في هذه الانتخابات نفسه مضطراً للإجابة عنها، وعندها سيظهر بوضوح الطريق الوحيد المفتوح أمام تركيا الموحدة المستقلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1123