عمَّ تعبّر تحركات ماكرون الأخيرة؟ وما دوافع الهجوم عليه؟

عمَّ تعبّر تحركات ماكرون الأخيرة؟ وما دوافع الهجوم عليه؟

تتخذ فرنسا برئاسة إيمانويل ماكرون حالياً موقفاً سياسياً أكثر تمايزاً عن عموم الغربيين فيما يتعلق بالرؤية المستقبلية للقارة الأوروبية، وكيفية التعاون ما بين دولها، واستقلالها، وعلاقاتها الخارجية.

وإن كان ماكرون يقوم بخطوات، ويخرج بتصريحات، ويعلن عن مواقف تتناقض مع المسار الأمريكي منذ ما قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإنه يقوم بذلك مدفوعاً أولاً بضرورات المرحلة وما تفرضه من تناقضات داخل العالم الغربي، ومن بينها أولاً: تمايز الأنغلوساكسون (بريطانيا- الولايات المتحدة- استراليا) عن بقية الدول الغربية، وثانياً: التقاء ذلك مع مصالح تياره الليبرالي الساعي للنجاة– قدر الإمكان– من ضغوط وتحولات داخلية تدفع إليها الحركة العمالية الفرنسية خاصةً، والشعبية عموماً.
من أواخر خطوات ماكرون العملية في إطار التناقض بين مصالح الأنغلوساكسون وبقية الدول الغربية، ورؤيته سالفة الذكر، كانت زيارته إلى بكين، ولقائه الرئيس الصيني شي جينبينغ في الـ 7 من الشهر الجاري، والتي تعرّض على إثرها، ولا يزال، لهجوم إعلامي وسياسي غربي كبير يهدف للتشويش على طروحاته السياسية في الرأي العام والأوساط السياسية على حدٍ سواء وإسقاطها.

هجوم إعلامي- سياسي

تكثّف هذا الهجوم بأسبابه وتفاصيله مقالتان نشرتا بأوقات مختلفة في صحيفتي «ذا إيكونوميست» و «ذا واشنطن بوست»، توضحان العناوين الأبرز التي تضمنتها الزيارة، وما جرى فيها، وأسباب الهجوم عليها.
يبدأ مقال بعنوان «خطأ ايمانويل ماكرون الفادح حول تايوان» في صحيفة « ذا إيكونوميست»: «حاصرت السفن الحربية الصينية تايوان مرة أخرى في الثامن من شهر نيسان، وقامت الطائرات الحربية بمحاكاة ضربات على الجزيرة[...]»، ثم يبدأ المقطع الثاني «ومع ذلك كان ايمانويل ماكرون، أحد أكثر القادة الأوروبيين خبرةً، من قرر الاحتفال برحيله من الصين في اللحظة التي بدأت بها هذه التدريبات العسكرية، معلناً أنه ليس من اختصاص القارة [الأوروبية] «الخوض في أزمات ليست من اختصاصنا» وقال باسم «الاستقلال الاستراتيجي»: إنه لا يجب على أوروبا أن تكون «تابعة» لأمريكا في أزمة مثل تايوان».
واعتبر المقال أن ماكرون قام بخطأين، الأول: هو «تعزيز طموح الصين بتقسيم الأوروبيين وفصل أوروبا عن أمريكا» والثاني: كان «تقويض دعم الحلفاء لتايوان. الدبلوماسية وحدها لن تقلل من مخاطر الحرب [...] ما يحدث لتايوان مهم لأوروبا، وإن كان بعض الأوروبيين لا يريدون خوض حرب، أو يترددون بفرض العقوبات بحالة غزو الصين، فإن هذا يرتبط بالمحادثات المغلقة بين الحلفاء، وليس على الملأ. وفضلاً عن ذلك، عبر تأكيده على استقلالية أوروبا، جعل ماكرون حياة المدافعين الأمريكيين عن خوض بلادهم الحرب في أوكرانيا أكثر صعوبة بوجه المنتقدين الذين يرغبون بإنفاق الأموال بأماكن أخرى».
أما على «واشنطن بوست» نُشر مقال بعنوان «كان ينبغي على إيمانويل ماكرون البقاء في منزله» يحتوي على جملة من الانتقادات السياسية لزيارته إلى بكين وما نتج عنها، جاء فيه: إن ماكرون قام «بفضح الانقسام الأوروبي حول بكين، وسلّم الرئيس الصيني شي جينبينغ أداةً دعائية، وألقى بتايوان بعيداً عبر اقتراحه على الأوروبيين ألا يتبعوا الولايات المتحدة بدفاعها عن الجزيرة بحالة الغزو الصيني».
وفضلاً عن ذلك، قام ماكرون بتوقيع اتفاقات مع الصين «بعضها بقيمة 15 مليار دولار تشمل الطاقة النووية المدنية، وطاقة الرياح، وطائرات إيرباص، والدواجن ولحوم البقر وغيرها. لكن السيد ماكرون مضى أبعد من ذلك [...] وقّع الرئيسان إعلاناً مشتركا من 51 نقطة لهدف غامض يتمثل بـ «دعم الجهود المبذولة للسلام في أوكرانيا» دون وجود إدانة واضحة للعدوان الروسي، ولم يذكر استخدام الصين لنفوذها».
ويتابع «يزداد الأمر سوءاً، ففي الاتفاقية التي وصفت أنها «شراكة استراتيجية مع الصين» اتفق السيد ماكرون مع السيد شي على «تعميق التبادلات [المعلوماتية]» مابين الوحدات الجنوبية لجيش التحرير الشعبي الصيني والوحدات الفرنسية في المحيط الهادئ. وفي الوقت الذي ساد فيه قلق أمريكي وأوروبي من صادرات التكنولوجيا الفائقة إلى الصين، وافق السيد ماكرون- عوضاً عن ذلك- على «المعاملة العادلة وغير التمييزية لطلبات ترخيص الشركات الصينية»».
ويذكر المقال «يبدو أن السيد ماكرون يتبنى بدرجة كبيرة جميع الأفكار الصينية حول بروز عالم جديد «متعدد الأقطاب» ونهاية «عقلية الحرب الباردة» واعتبر المقال، أن الزيارة كانت نصراً كبيراً للصين، وأن «على الدبلوماسيين الأمريكيين والأوروبيين التعامل مع ما تبقى من تداعيات هذه الرحلة الكارثية، ليس أقلها تقويض ردع العدوان الصيني على تايوان».

انقسام غربي

إن كانت المقالتان السابقتان تفسّران بنفسيهما أسباب الغضب الغربي من ماكرون، عبر النقاط المذكورة فيهما وتحديداً الموقف من الدور الصيني الصين والموقف من ملف تايوان، فإنهما تؤكدان أكثر من مواقف ماكرون نفسها، بوجود انقسام غربي عميق جاري.
مواقف ماكرون المتناقضة مع الأنغلوساكسون ليست بالجديدة، ففي عام 2019 وخلال حديثه مع صحيفة «ذا ايكونوميست» اعتبر أن «ما نختبره اليوم هو الموت الدماغي للناتو» وذلك بالفترة التي كان يدعو بها لإنشاء تحالف عسكري أوروبي جديد لا توجد الولايات المتحدة الأمريكية فيه، ودون أن يشير إلى وجود المملكة المتحدة ما بعد بريكست فيه. وبدورهم، قام الأنغلوساكسون، أمريكا وبريطانيا وأستراليا، بتحالف دفاعي مشترك عرف بـ أوكوس، أدى إلى دفن اتفاقية غواصات نووية كبيرة ما بين فرنسا وأستراليا.

هل يُعد ماكرون بطلاً؟

يمثّل ماكرون تياراً أوروبياً يهدف للاستقلال عن الولايات المتحدة الأمريكية بانهيارها، ويسعى في الوقت نفسه للنجاة من ضغوط الحركات الشعبية، المطالبة بالتغيير عبر محاولات التكيّف مع العالم الجديد الناشئ. وإن كانت فرنسا تبرز بالدور السياسي على الساحة الأوروبية، فألمانيا تبرز في المجال الاقتصادي، ووقع كلا البلدين تحت ضغط الولايات المتحدة بإشعالها الملف الأوكراني وما نتج عنه، واضطرتا للتراجع والتخلي مؤقتاً عن مواقفهما السابقة، سواء فيما يتعلق بـ «الناتو والتحالف العسكري الجديد» أو «السيل الشمالي 2» كمثالين واضحين من أمثلة عديدة أخرى.
التيار الذي نطق ماكرون باسمه، يعبر عن تناقض قديم موجود بين مركز رأسمالي أوروبي، وآخر أمريكي نجح في فرض هيمنته على القارة الأوروبية، وأنشأ لذلك كل الأدوات اللازمة، كالناتو والاتحاد الأوروبي، وتعتبر الأزمة العميقة التي تعيشها واشنطن بمثابة تهديد بأن «القارب يغرق» ما يدفع البعض للقفز بعيداً، وربما محاولة التكيف مع عالم جديد يتشكّل، وخصوصاً بعد الحديث المتكرر عن أن أوروبا لا بد أن تكون أحد أقطاب العالم الجديد. «النزعة الأوروبية» هذه لا ترضي الولايات المتحدة، وتنبئ بتطورات خطيرة، فالصين تراهن على إمكانية للتفاهم مع قوى في أوروبا شريطة ابتعادهم عن واشنطن. التكيّف مع العالم الجديد بالنسبة لفرنسا وألمانيا وبقية الدول الأوروبية لا يمكن أن يجري دون تغييرات جذرية داخل كل واحدةٍ منها، تنعكس بدورها على العلاقات فيما بينها، والعلاقة مع الولايات المتحدة، أملاً في أن تنجح أوروبا في تأمين مصالحها الحقيقية وهو ما بدأت الحركة الشعبية في أوروبا تعبّر عنه تدريجياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1119
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 22:20