«العالم يتغيّر» روسيا والصين تقودان هذا التغيّر!

«العالم يتغيّر» روسيا والصين تقودان هذا التغيّر!

تشغل العلاقات الروسية- الصينية اهتمام العالم، وتركّز وسائل الإعلام على جوانبها وآفاقها، ما يجعل أيّ لقاء رفيع المستوى بين البلدين، مناسبة جديدة لإعادة تقييم شاملة لحجم التطور الذي تشهده العلاقات الثنائية، لكن جوانب أخرى تظلُّ مُغيبة كتأثيرها السياسي على المستوى العالمي، ودورها في تطور المشهد الكلي، وهدف البعض من تصغيرها.

أنهى الرئيس الصيني شي جين بينغ زيارة إلى العاصمة الروسية موسكو، امتدت لثلاثة أيام من 20 إلى 22 آذار الجاري، عقد خلالها مجموعة من اللقاءات مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الحكومة ميخائيل ميشوستين. القمة الرئاسية هذه ترافقت مع توقيع عدد كبير من الوثائق والاتفاقيات في مجالات التعاون الشاملة وصلت إلى 14 وثيقة، لتختتم الزيارة بصدور بيان رئاسي روسي- صيني ثبّت مجدداً جملة من التفاهمات المشتركة وقدّم أفكاراً وصياغات جديدة.

بعض ملامح «قاعدة العلاقات المادية»

يمكن رصد التّجلي العملي لشراكة البلدين الاستراتيجية في كلِّ المجالات، تلك التي تتطور بشكل متسارع إلى درجة تفوق السقوف المتوقعة. فما وصفه البيان الرئاسي بأنه: «القاعدة المادية للعلاقات الروسية- الصينية» يعكس فعلياً حجم المصالح المتشابكة بين البلدين، والإمكانيات الكامنة لهذا التعاون. وقّدم الرئيس بوتين بعض المؤشرات في هذا السياق التي يمكننا عرض أهمها.
حقق البلدان معدلات قياسية جديدة بحجم التبادل التجاري، فيجري الحديث عن قرابة 190 مليار دولار، ما يعني أنهما قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الهدف المعلن في الوصول إلى تبادل بقيمة 200 مليار دولار، لكن بمدة أقصر من المتوقع. من جانب آخر لعبت العملات المحلية «اليوان الصيني والروبل الروسي» دوراً أكبر في هذا التبادل بلغ مقدار الثلثين، وهو ما أشار بوتين إلى ضرورة زيادته. في جانبٍ آخر يبدو أن قطاع الطاقة يشهد نمواً ملحوظاً، وسيتسارع بشكلٍ أكبر بعد تأكيد موسكو وبكين انتهائهما من وضع الإطار العام لمشروع خط سيبيريا-2 لنقل الغاز الطبيعي عبر منغوليا إلى الصين بطاقة 50 مليار متر مكعب. وإلى جانب الغاز الطبيعي أشار بوتين إلى نمو في صادرات روسيا من الكهرباء والفحم والنفط والغاز المسال، مؤكداً أن قطاع الغاز سينقل إلى الصين 98 مليار متر مكعب على أقل تقدير في عام 2030، هذا إلى جانب 100 مليون طن من الغاز المسال. وبخصوص الصادرات النفطية، تستطيع السوق الصينية استهلاك كامل إنتاج روسيا من النفط الذي يبقى أقل من احتياجاتها، وهو ما يعني أن سقوف الصادرات النفطية تبقى مفتوحة بين البلدين.

«ليس هناك ما يدعو إلى القلق»!

ركّزت واشنطن في الفترة الماضية على «حجم التهديد الذي تشكّله العلاقات الروسية- الصينية»، حتى أن تلميحاتها في الأشهر الماضية أشارت بشكلٍ متكرر إلى وجود مخاوف لديها من أنَّ «بكين تقدّم الأسلحة إلى روسيا»، لكن، وبالتزامن مع انعقاد القمة الثنائية، أظهرت التصريحات الأمريكية موقفاً مختلفاً بشكلٍ ملموس. فقلل الرئيس الأمريكي جو بايدن من حجم العلاقة التجارية بين روسيا والصين، وأشار إلى أن بكين لم تقدّم دعماً عسكرياً حتى الآن إلى موسكو، وهو ما أكده وزير الدفاع لويد أوستن الذي قال: إن بلاده لم تلحظ تقديم مساعدات مادية من الصين إلى روسيا. وفي سياقٍ متّصل قال منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي: إنّ «روسيا تعد الشريك الأصغر» في علاقاتها الثنائية مع الصين، مشككاً بوصول البلدين إلى أية اتفاقيات بخصوص الدعم الصيني إلى روسيا. وهو ما أكده أيضاً مفوض السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، إذ قال: «لا نملك أي دليل على أن الصين زودت روسيا بالأسلحة».

أسئلة مطروحة

يعتبر الوزن الاقتصادي والعسكري والسياسي لروسيا والصين معاً تهديداً حقيقياً بالنسبة للهيمنة الأمريكية، وتعد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين مسألة شديدة الخطورة بالنسبة لواشنطن، كونها قادرة على حسم الصراع الدولي الجاري. وهو ما طرح أسئلة حول الغاية من هذا التحول المفاجئ في الخطاب الغربي حول هذه المسألة. فالمستوى الأول للمسألة مرتبط بالانقسام الأمريكي وحجم الصراع الداخلي، فقد ظهر بعض المسؤولين السابقين في إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ليقدموا رؤية مختلفة جذرياً، مثل: وزير الخارجية الأسبق والرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، مايك بومبيو الذي قال: إن التعاون الاقتصادي بين البلدين مهم وسيؤثر على الولايات المتحدة، وينبغي الاستعداد التام للرد عليه والتصدي له. ووصف محاولات البيت الأبيض تصوير زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو بإمرٍ قليل الأهمية بالـ «الخطأ الاستراتيجي الفادح» ثم أضاف: إن إدارة بايدن فشلت، وسمحت للروس والصينيين بالاتحاد ما يشكّل «مخاطر كبيرة على الولايات المتحدة وكل مواطن فيها» حسب تعبيره. وهو ما تحدث عنه مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، الذي اعتبر أن «التحالف الروسي الصيني مشكلة حقيقية للغرب». كل هذه التصريحات تشير إلى أن إدارة الرئيس بايدن تحاول الدفاع عن استراتيجيتها التي فتحت واشنطن من خلالها النار على أكثر من جبهة، ما ثبّت التفاهمات الروسية-الصينية أكثر، وزاد من تسارعها، فالولايات المتحدة قامت بأعمال عدائية تضر بالأمن الوطني لكل من موسكو وبكين في الوقت نفسه، وأغلقت باب التفاهمات، مما وضعها في مأزقٍ حقيقي، وجدت نفسها فيه مضطرة إلى التحايل وتقليل من شأن الشراكة الروسية- الصينية، في محاولة لنفي وجود خطر وجودي يهدد السطوة الأمريكية في العالم.
أما المستوى الثاني الذي يمكن لنا أن نقرأ فيه التصريحات الغربية هذه، هو أن لها أهدافاً أكثر شمولية، وأبعد من حدود الولايات المتحدة. فالإقرار بحجم ومتانة العلاقات بين البلدين، خصوصاً على المستوى الاقتصادي والعسكري، يعني ببساطة أن المعركة حسمت بالفعل لصالح العالم متعدد الأقطاب، وأن الرهان على بقاء الهيمنة الأمريكية رهانٌ خاسر. وهو ما ترغب واشنطن في إخفائه، خصوصاً عن أتباعها في المعسكر الغربي. تصريحات بوريل كررت التخريفات الأمريكية ذاتها، لتؤكد مجدداً دور مؤسسات الاتحاد الأوروبي في فرض السطوة الأمريكية على الدول الأوروبية من جهة، وبوصفها «ذرّاً للرماد» لدفع أتباعها الأوروبيين لإحراق أنفسهم في معركة محسومة النتائج من جهة ثانية.

في ختام هذه الزيارة، قال الرئيس الصيني لنظيره الروسي: «نحن نرى الآن تغييراً لم نشهده من قبل، تغييراً لم يحدث منذ 100 عام، إننا نقود هذا التغيير معاً.. من فضلك اعتنِ بنفسك يا صديقي العزيز» ليرد عليه الرئيس الروسي «أوافقك» وتمنى له رحلة آمنة. هذه الكلمات البسيطة جاءت بمثابة ضربة موجعة لواشنطن، ورسالة إلى الكوكب كلّه. روسيا والصين تدركان القوة الكامنة لديهما، وتدركان أن الاختبارات التي نجحتا في تجاوزها حتى الآن كافية لنقل تعاونهما إلى مستوى أعلى. هي دعوة إلى كل من لم يفهم بعد، أن العالم يتغير، وأن أوراق اللعب التي كانت كلّها بيد أمريكا يوماً لم تعد كذلك! 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1115