تسريبات هيرش تُسرّع من تفاعل التناقضات داخل ألمانيا

تسريبات هيرش تُسرّع من تفاعل التناقضات داخل ألمانيا

إثر التفجير الإعلامي الذي قام به الصحافي الأمريكي سيمور هيرش بتحقيقه المنشور حول تفجيرات خط أنابيب السيل الشمالي في بحر البلطيق، وما نتج عنه من تداعيات سياسية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والعلاقات فيما بينهما، سارع المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الأمريكي جو بايدن لعقد اجتماع خاص لهما في البيت الأبيض، أظهرا خلاله إعلامياً حالة من «الانسجام التام» بين البلدين، لكن، ما السياق الذي جاء به وما الغاية فعلياً منه؟

لم تكن ألمانيا بعيدة عن حالة الانقسام السياسي الداخلي فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الأزمة الدولية، والمتغيرات الجارية والعلاقات مع الولايات المتحدة المتراجعة، وإن لم يكن هذا الانقسام ظاهراً بالمعنى السياسي المباشر بعد، لرسم حدوده على مستوى أحزاب أو شخصيات بعينها، إلا أنه كان من الواضح قبل تفجير أنابيب السيل الشمالي، وبشكل أكثر وضوحاً قبل بدء المعركة في أوكرانيا، ميل برلين نحو التعاون والانفتاح بشكل أكبر مع روسيا اقتصادياً، وعلى الجهة الأخرى وفي الوقت نفسه، كان يبرز التيار الآخر من خلال المواقف العدوانية تجاه روسيا كل حين، والتي كان من أبرزها ما جرى حول السياسي الروسي ألكسي نافالني سابقاً. وخلال هذه الفترة كانت العلاقات مع واشنطن تعمّها الخلافات وتتدهور بوتيرة شبه ثابتة، وكان أحد أبرز عناوين هذه الخلافات هو مشروع السيل الشمالي 2.

تغيّر الكفة لصالح واشنطن

مع وصول شولتس كمستشار ألماني جديد، وتغيّر الحكومة عملياً، بدأت تظهر أولى ملامح التغيّر بالمواقف تجاه موسكو وواشنطن، فانخرطت ألمانيا بشكل فاعل في الحملة الغربية التي سبقت الحرب الأوكرانية، ثم وما أن بدأ القتال حتى تورطت برلين بسياسة العقوبات، واندفعت لتقديم السلاح إلى أوكرانيا، وتأجيج الصراع حسب التعليمات الأمريكية، مما أوصل العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى بعد كل التقدم السابق. وانعكس ذلك على مشروع السيل الشمالي الذي كان يتقدم ببطء تحت الضغوط الأمريكية، حتى توقف تحت ذرائع بيروقراطية رغم جاهزية المشروع للتشغيل. ورغم حاجة ألمانيا لهذا الغاز الرخيص، إلا أنها انصاعت للمطالب الأمريكية التي كانت ترى في هذا المشروع داعماً للعلاقات الألمانية- الروسية، تلك التي حرصت واشنطن على ضربها وإعاقة تطورها، وصولاً إلى التهديد المباشر بإنهاء مشروع السيل الشمالي، وعلى لسان عدد من المسؤولين الكبار بما فيهم الرئيس بايدن، والذي كان كفيلاً بوضع واشنطن بقفص الاتهام بعد تفجير خطوط الأنابيب.

تسريبات هيرش والتناقضات الداخلية

بصرف النظر عن معرفة بعض دوائر الحكم الألمانية أو ضلوعها بأي شكل كان من عدمه بتفجيرات أنابيب السيل الشمالي، إلا أن التقارير الصحفية أو التحقيقات فضلاً عن البديهيات السياسية جميعها باتت تؤكد أن الولايات المتحدة كانت العقل المدبر، والمخطط، والمنفذ للعملية، ومن المعروف والبديهي كذلك الأمر، أن هذه العملية أضرّت بالدرجة الأولى وبشدة ألمانيا نفسها، سواء بالأثر المباشر فيما يتعلق بالطاقة خلال الشتاء، أو استراتيجياً من الناحية الاقتصادية، وأرغمتها على البقاء في الفلك الأمريكي بشكل أكثر تبعيةً من السابق، وهي نتيجة ترضي تلك الأطراف التابعة لأمريكا والمرتبطة معها داخل جهاز الدولة الألماني.
لكن أنتجت تسريبات هيرش ردود فعل داخلية بطبيعة الحال، والأهم منها، هو تسريع وتيرة وحدّة تفاعل التناقضات في ألمانيا سواء حول السيل الشمالي، أو العلاقات مع الولايات المتحدة، أو الموقف من دعم أوكرانيا بالمال والسلاح. فميل الكفّة سابقاً من التقارب مع موسكو تحو التقارب مع واشنطن يتهدد الآن بهذه التأثيرات نحو اتجاه معاكس.
يبيّن المزاج العام في ألمانيا، أن الأغلبية تتخذ موقفاً رافضاً لدعم أوكرانيا بالأسلحة، ومن التأثيرات المذكورة سابقاً توسع هذا الرفض بشكل أكبر وأكثر علانيةً، حيث حوّل الألمان في الـ 25 من الشهر الماضي حملة نظمها أوكرانيون لدعم كييف في برلين إلى حركة احتجاجية تطالب بوقف إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، وفي اليوم التالي نظم آلاف النشطاء احتجاجات قرب قاعدة «رامشتاين» الأمريكية في راينلاند بالاتينات في ألمانيا مطالبين بإغلاقها، وسط هتافات «أغلقوا القاعدة، ارحلوا إلى بلادكم» وطالبوا بتسريع محادثات السلام حول أوكرانيا.
وإن لم يكن ما سبق كافياً لتوضيح هذا المزاج وتأكيده، فخلال كلمة لشولتس أمام البوندستاغ بعد أيام من التظاهرات المذكورة سابقاً، قال: «إننا نعلم أن المواطنين الألمان لا يؤيدون إرسال الأسلحة لأوكرانيا.. لكننا ندعم أوكرانيا للدفاع عن نظام الأمن الأوروبي» وهي نفس الكلمة التي أعلن خلالها عزم برلين شراء مقاتلات إف-35 ومعدات وأسلحة أخرى لرفع القدرات العسكرية الألمانية. إن هذه الحركات الاحتجاجية وهذا القول، وبالمجمل هذا التحرك السياسي الذي جرى بالتوازي مع تسريبات هيرش، تعكس بدرجة أولية وظاهرة تفاعل تلك التناقضات داخل ألمانيا.

اجتماع شولتس وبايدن

ضمن هذا السياق، جرى الاجتماع الخاص بين شولتس وبايدن، للتخفيف من وطأة الضغوط على الحكومة الألمانية الحالية، وللحفاظ على ميل الكفّة لصالحها من جهة، وإرسال رسالة إعلامية لبقية الدول، مفادها أن التسريبات الأخيرة لم تضر بالعلاقات بين البلدين من جهة أخرى، لتلك الدرجة التي أكد فيها شولتس استمرار دعمه وإمداداته لأوكرانيا، وإثناء بايدن بقوله «لقد أطلقتم تغييرات تاريخية داخل البلاد- زيادة الإنفاق الدفاعي، وتنويع مصادر الطاقة والابتعاد عن الطاقة الروسية.. أعلم أن الأمر لم يكن سهلاً، لقد كان صعباً للغاية بالنسبة لكم»!
رغم ذلك، لا يعني هذا السرد بأية حال استنتاج أن شولتس ينتمي لطرف ما محدد ضمن التناقضات الداخلية الألمانية، فهو وإن ظهر على هيئة حليف لواشنطن، إلا أن هذا الأمر قد يتغير بتغير تفاعلات القوى الداخلية.

تفاعل التناقضات الجاري داخل ألمانيا سوف يبرز التيارات المناهضة لواشنطن من التابعة لها بشكل أكثر وضوحاً خلال الأيام المقبلة، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تسريع تغيّر الكفّة تلك، والذي من المرجح أن تكون أولى ملامحها دفع برلين بشكل جدّي لعقد مفاوضات سلام حول أوكرانيا، فبنفس الوقت الذي أكد به شولتس دعمه للأخيرة، ضجت مسألة تعزيز القدرات الدفاعية داخل ألمانيا بشكل يناقض فكرة إرسال السلاح، فكان تصريح وزير دفاعها بوريس بيستوريوس في الأول من آذار، بأن الجيش غير قادر على حماية البلاد، وملفتاً قبل ذلك بيومين قول مدير شركة الصناعات الدفاعية الألمانية Rheinmetall AG: «كان لدينا منظومتا [دفاع جوي] كاملتان، باستطاعتهما حماية برلين، لكنهما موجودتان حاليا في أوكرانيا».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1112