حول تصعيد اقتصادي أوسع من جبهة القتال في أوكرانيا

حول تصعيد اقتصادي أوسع من جبهة القتال في أوكرانيا

أثبتت التطورات الأخيرة، أن خيار التصعيد العسكري في أوروبا هو الخيار الوحيد الذي تضعه واشنطن على الطاولة، مما عقّد شكل وظروف النزاع الحالي، وبدأنا نلمح تطورات نوعية في التسليح، وخصوصاً بعد الحديث الأخير عن احتمال نقل منظومة باتريوت الدفاعية الأمريكية المتطورة إلى أوكرانيا، لكن ومع كل هذا تبدو ساحة المعركة الاقتصادية الأكثر سخونة واتساعاً في هذه الحرب.

أكدت مجموعة من التصريحات الرسمية- منها ما جاء على لسان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي- على أن طول خط الجبهة بين الجيشين الأوكراني والروسي يبلغ حوالي 2.5 ألفين وخمسمائة كم، ويشتعل القتال بشكلٍ نشط ودائم على ألف و300 كم، كما يجري استخدام جميع أنواع الأسلحة التقليدية والمتطورة، وبغض النظر عن دقة الأرقام التي يقدمها زيلينسكي، إلا أن التقديرات معظمها تشير إلى أن خط الاشتباك يتجاوز ألف كيلو متر، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الضربات الصاروخية في العمق الأوكراني، فنكون أمام اشتباك هائل الحجم، لا يظهر منه مخرج في الأفق القريب. إلا أن هذه الأرقام المخيفة تبدو مضحكة إذا ما جرى مقارنتها بحدود «الاشتباك الاقتصادي» فإن كان الجزء العسكري من هذه الحرب يجري على الحدود الأوكرانية الروسية، فالجزء الاقتصادي للصراع الجاري يتجاوز حدود كامل حدود أوروبا، ويتسع إلى مناطق واسعة من العالم.

شكل الاشتباك الاقتصادي وحدوده

ظهرت العقوبات الغربية بوصفها السلاح الأبرز في هذه المعركة، وقام الاتحاد الأوروبي مؤخراً بالتعاون مع واشنطن بإقرار الحزمة التاسعة للعقوبات على روسيا، ومع العلم أن مسألة استخدام العقوبات الاقتصادية كانت أمراً شائعاً بالنسبة للدول الغربية، إلا أنها تأخذ أشكالاً جديدة، وتكشف لنا بعض خبايا الصراع الجاري، فالعقوبات التي جرى فرضها، والتي استهدفت قطاعات اقتصادية داخل روسيا، وتوسعت لتشمل تهديداً لكل من يكسر هذه العقوبات، ثبتت فعلياً حدود الاشتباك، ليظهر أن روسيا ليست الطرف الوحيد على جبهتها، فقائمة الدول التي لم تنخرط في العقوبات ورفضتها أصبحت بذلك طرفاً فاعلاً في هذا الصراع، رغم وصفهم بـ «الدول المحايدة». وانطلاقاً من هذه النقطة تحديداً، بات بإمكاننا الانتباه إلى أن مصالح هؤلاء تتقاطع فيما بينها أكثر مما مضى، وهو ما دفعهم لرفض الانخراط إلى جانب واشنطن في حرب العقوبات، وما عناه ذلك من تحويل دول مهمة في محيط روسيا إلى فضاء هائل للاقتصاد الروسي للتنفس، وحمايته من الدخول في مأزق كارثي. لا خدمة لروسيا، بل لما يعنيه ذلك من صون لمصالحهم.

سقوف الأسعار نموذجاً

اعتمدت الدول الغربية قراراً بفرض سقف على أسعار النفط الروسي المنقول بحراً، ويجري الحديث حالياً عن خطوة مشابهة اتجاه الغاز، فرغم العوائق الجدية في وجه الخطوة الأخيرة، والفشل المتكرر للوصول إلى توافق حولها، إلا أن دول الاتحاد الأوروبي «تكافح» منذ ثلاثة أسابيع للوصول إلى اتفاق حول اقتراح قدمته المفوضية الأوروبية بتحديد سقف لأسعار العقود الشهرية في بورصة الغاز في هولندا، التي تعد مرجع غالبية التعاملات في الاتحاد الأوروبي. وتقترح المفوضية الوصول إلى هذا الهدف عبر شراء الغاز بصورة جماعية بمشاركة اتحادات شركات من أجل الحصول على السعر المطلوب. وتجري في السياق نفسه محاولات جديدة للبحث عن بدائل للغاز في الاقتصاد الأوروبي، عبر إعادة الترويج لضخ استثمارات هائلة في البنى التحتية للطاقات المتجددة، وذلك على الرغم من كل نقاط الضعف فيها.

جبهة منتجي الخامات

رغم الشكوك الكبرى حول جدوى قرارات كهذه، إلا أن قرار سقف أسعار النفط المشار إليه يعد مثالاً لطبيعة المعركة الدائرة، وحجم التصعيد المطلوب فيها. ومع أن تداعيات هذا القرار لم تظهر بوضوح بعد، إلا أنها شكّلت بالنسبة لعدد من الدول مؤشراً خطيراً ينبغي الوقوف والعمل ضده. فالسقف الذي اعتمدته الدول الأوروبية كان 60$ لبرميل النفط الروسي، وهو ما أكد الرئيس فلاديمير بوتين أنه يقارب إلى حد كبير السعر الحالي الذي تبيع روسيا بموجبه خام الأورال. ومع ذلك رفضت موسكو هذا القرار، وتلوح حالياً بعدد من الإجراءات التي يمكن أن ترد بموجبها على الخطوة الغربية، مثل: خفض الإنتاج، أو زيادة حصة دول كالهند والصين من هذه الخامات، وإيقاف تعاملاتها مع الدول التي قبلت فرض سقف للأسعار.
الـ 60$ المقترحة كسعر للبرميل ما هي إلا خطوة جديدة تحاول واشنطن من خلالها التمسك بسلطاتها شبه المطلقة في تسعير الخامات الرئيسية عالمياً، وهو تحديداً ما دفع موسكو لرفض الخطوة والتهديد بالرد عليها. أسعار النفط مثلاً تخضع للكثير من التجاذبات، إلا أن الأسواق والبورصات الغربية لعبت تاريخياً دوراً أساسياً في تثبيت السعر الذي يناسبها، إذ اشترى الغرب برميل النفط بـ 1.29$ في العام 1900 وظلت أسعار النفط منخفضة حتى عام 1973 لترتفع إلى 4$ للبرميل! لتبدأ بعدها موجات من التقلبات وارتفاعات السعر. ولا يخفى على أحد، أن تأمين كميات هائلة من موارد الطاقة خلال هذه المدة الطويلة كان المساهم الأول في تطوير اقتصادات الدول الغربية، التي رمت بالفتات إلى أصحاب الثروات النفطية، عبر إجبارهم بشتى الوسائل على بيع انتاجهم بهذه الأسعار من جهة، وشراء المنتجات المصنعة بهامش ربح كبير جداً من جهة أخرى. ويشير بعض الباحثين إلى أن الارتفاعات اللاحقة في الأسعار لم تكن صوناً لمصالح منتجي الخامات، بقدر ما كانت خطوة أمريكية خبيثة لإخراج المنافسين الغربيين الآخرين، الذين لا يملكون كميات كافية من الخامات النفطية، والذين سيكونون مضطرين لدفع فاتورة أعلى على الطاقة، مما سيؤثر على قدرات اقتصاداتهم التنافسية ويحولهم تدريجياً لأتباع للمركز في واشنطن.

طريق باتجاه واحد

حالة النهوض التي شهدتها دول الشرق، وما رافقها من تطور سياسي واقتصادي وعسكري، كان لابد أن تصطدم بكل القيود التي فرضها الغرب تاريخياً عليهم، وكانت أسعار الخامات على رأس هذه القائمة، ومن هذه الزاوية تحديداً تصبح معركة روسيا في هذا الميدان معركة يخوضها جميع منتجي الخامات، ضد أولئك الذين فرضوا هذه الأسعار بما يلبي مصالحهم! وقد وصلت تطورات هذه المعركة إلى تلك الدرجة التي بدأت واشنطن تفقد السيطرة تدريجياً على تلك الآليات «الخفية» التي كانت «السوق» تحدد أسعار الخامات بموجبها، لتنتقل اليوم إلى مستوى أعلى في التصعيد، يستوجب إصدار الفرمانات التي تثبت الأسعار عند حد معين، وتعاقب من لا يلتزم بها. وها نحن نشهد اليوم الانتقال من الحديث عن فرض أسعار النفط إلى الغاز، ونسمع أحاديث متفرقة حول خامات أخرى.

تدرك الدول النامية الكبرى- كالهند والصين والدول المنتجة للنفط- جوهر ما يجري، وترى مصالح شعوبها في منع الغرب المقاد أمريكياً من التحكم المطلق بتقسيم العمل العالمي، وحرمانه من فرض التبادل اللامتكافئ كشكل واحد للتبادل التجاري بين «دول الشمال» و«دول الجنوب» فالتقاربات السياسية بين هذه الدول هي اتجاه موضوعي، سيتعاظم مستقبلاً، ومع كل تصعيد اقتصادي جديد ضد روسيا، وأي من الدول النامية الأخرى ستتطور آليات جديدة للرد، وسيقلص الواقع تدريجياً الخيارات أمام الأنظمة السياسية في هذه البلدان، وستجد نفسها في مواجهة مفتوحة مع ورثة الاستعمار وسماسرته في الداخل. وستعجز قريباً عن إحراز أي تقدم ما لم تنجح في كسر هذه التبعية وأدواتها من جهة، وتصفية حواملها الداخلية من جهة أخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1101
آخر تعديل على الخميس, 22 كانون1/ديسمبر 2022 14:45