من يريد الحرب؟ ومن يريد المفاوضات؟

من يريد الحرب؟ ومن يريد المفاوضات؟

تقارير كثيرة ومتسارعة تفيد معظمها بأن «تفاوضاً» ما يلوح في الأفق، فبعد تجميد المفاوضات الروسية الأوكرانية لفترة طويلة، يرصد البعض مؤشرات على «إعادة حسابات» في الصفوف الأوكرانية والغربية، يمكن أن تؤدي إلى عودة إحياء للمفاوضات، فهل هذا ما يجري فعلاً؟ وما هي فرص نجاح هذه المفاوضات في ظل الظروف الحالية؟

من يريد التفاوض وعلى ماذا؟

العملية العسكرية التي أصرّت القيادة السياسية الروسية على تسميتها «العملية العسكرية الخاصة» بدلاً من «الحرب» ترافقت منذ البدء بالحديث عن مفاوضات، بل إن إعادة استرجاع الأسابيع التي سبقت الحرب مباشرة توضّح أن مفاوضات جرت قبل بدء الأعمال العسكرية. وكما بات معروفاً، إن المفاوضات التي بدأت في نهاية شهر شباط 2022 توقفت في 29 آذار بعد جلستها الأخيرة في إسطنبول دون الوصول إلى توافقات، حتى أن الأمور وصلت إلى تلك الدرجة التي أصدر فيها الرئيس الأوكراني مرسوماً يعقّد إجراء مفاوضات مع روسيا، ويشترط إزاحة الرئيس الروسي عن الحكم لبدء هذه المفاوضات.
مع عبور القوات الروسية الحدود الأوكرانية السابقة، كانت تصريحات المسؤولين الروس توضّح أهداف هذه «العملية الخاصة» وكان من بين ما جرى تداوله وقتها: أن موسكو تريد نزع سلاح النظام الأوكراني الحالي وضمان حياد جارتها ومنع انضمامها للناتو، ومع تطور الأحداث بدأت التصريحات الروسية تشير إلى أن أهداف هذه العملية ونطاقها الجغرافي قابل للتوسع في حال استمر الدعم الغربي لكييف. أي إن موسكو تصر بشكلٍ واضح على سقفٍ مرتفع في أية مفاوضات مطروحة. من جانب أوكرانيا، كان واضحاً أن واشنطن هي صاحبة الكلمة الأخيرة في هذه المسألة، وهو ما انعكس بوضوح على أجواء المفاوضات الثنائية، بالنسبة للولايات المتحدة كان المطلوب أن يتطور الموقف إلى مستوى الصدام المسلح، وكانت رؤوس واشنطن الحامية تأمل في إطالة أمد هذا الاشتباك قدر الإمكان، وتحويل كامل موارد أوروبا لتغذية الصراع الدائر، وهو ما أملت من خلاله خلخلة عوامل الاستقرار في روسيا وأوروبا، تمهيداً لإخراجهم من المنافسة العالمية. تطور الأحداث لم يجنب واشنطن تحمّل جزء من أعباء ما يجري، وبغض النظر عن قائمة الفوائد التي حققتها خلال الفترة الماضية، إلا أن قدرتها الحفاظ على مستوى الضغط الحالي لم يعد خياراً مضموناً، وخصوصاً مع تعاظم مؤشرات التصدع في صفوف الدول الأوروبية، سواء في علاقاتها الثنائية، أو عبر الانقسامات الكبرى داخل هذه الدول نفسها.

مصير رهان واشنطن الأكبر

رهان واشنطن على إطالة أمد الاشتباك إلى أطول فترة ممكنة، كان يمكن أن يعطي نتائج مختلفة في ظروف تاريخية مختلفة، روسيا نجحت في تجنب الكثير من آثار العقوبات عبر تمتين شبكة من العلاقات مع دول نامية كالهند والصين وتركيا ودول الخليج، في مقابل تدهور سريع في الجبهة الأوروبية، ما بات يهدد واشنطن بشكلٍ جدي، وهو ما يمكن من خلاله تفسير عودة الحديث عن المفاوضات. فنشرت تقارير أمريكية في عدد من الصحف والدوريات الغربية- مثل: واشنطن بوست- تقارير تفيد بأن إدارة الرئيس بايدن تمارس ضغطاً على كييف لإعلان موقف أكثر مرونة من قضية المفاوضات، ويجري الحديث عن الزيارة الأخيرة لمستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان إلى كييف، والتي حثّ فيها الرئيس زيلينسكي على التعاطي بإيجابية أكبر مع فكرة المفاوضات. هذه الأنباء التي جرى نفيها من قبل البعض، ترافقت مع تصريحات أوكرانية جديدة تراجع فيها زيلينسكي عن تصريحاته السابقة، التي أصرّ فيها على إزاحة بوتين من السلطة، وحدد خمسة شروط جديدة لدخول بلاده في مفاوضات كهذه. ما يثير الانتباه، أن هذه الشروط لن تكون مقبولة في موسكو، وخصوصاً أن البند الأول فيها هو انسحاب روسيا من كل الأراضي التي سيطرت عليها، حتى تلك التي جرى ضمها رسمياً إلى روسيا الاتحادية، وشبه جزيرة القرم التي استعادتها بعد انقلاب 2014 في أوكرانيا. كل هذا يشير إلى أن الحديث عن مفاوضات لم ينضج بعد بالنسبة لأي من أطراف الصراع. وهو ما يطرح سؤالاً جديّاً حول الهدف من تسريب «نصائح واشنطن لكييف للانخراط في مفاوضات مع روسيا» والذي يمكن قراءته بوصفه استثمار في توريط الأوروبيين أكثر في هذا الصراع، فالتململ في صفوفهم بات يشكل تهديداً حقيقياً على الدعم الكبير الذي يقدمونه إلى أوكرانيا، والذي بات أساسياً في المعركة ولا يمكن إيقافه، لكنه يشكّل عاملاً مسرعاً للانقسام والانهيار في صفوفهم، وخصوصاً أن صراعاً كهذا يمكن أن يستمر لعقدٍ من الزمن أو أكثر.
فتصريحات الرئيس الفرنسي التي دعا فيها واشنطن للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا، أظهرت أن الدول الأوروبية تدرك بوضوح من يقف وراء التعنّت الأوكراني، وفي الوقت نفسه أن يختار ماكرون إعلان ذلك على العلن أصبح ضرورة للقادة الأوروبيين للتخفيف من الضغط الداخلي، تقديم مساعدات غير محدودة إلى أوكرانيا ولآجال غير واضحة لا يمكن أن يستمر دون ضريبة سياسية كبيرة، حتى أن هذه المسألة باتت تشكّل عامل ضغط كبيرة داخل الولايات المتحدة، ما يمكن أن يدفع الإدارة الحالية إلى الإبقاء على مفاوضات شكّلية وإرسال إشارات إلى وجود نيّة أمريكية بإيجاد نقطة نهاية لهذا الصراع. خيار واشنطن لم يتغير حتى اللحظة، المطلوب: القتال حتى آخر جندي أوكراني، واستخدم آخر قطرة من موارد أوروبا، وإلا ستخسر الولايات المتحدة أكبر رهاناتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1096