البيت الأبيض: العالم غير قادر على الاستمرار دون قيادتنا!
أعلنت الإدارة الأمريكية منذ أيام عن استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، والتي تعد الأساس لعدد من الوثائق الأخرى كـ «استراتيجية الدفاع القومي» وغيرها من وثائق ترسم بمجملها الاتجاه العام لمجمل سياسات الولايات المتحدة، وإن كان بعضها يحتاج لمتخصصين وعسكريين لتحليلها بدقة، يبقى مضمونها السياسي والأهم واضحاً لا يحتاج كثيراً من البحث.
يعتبر هذا النمط من الوثائق مادة دسمة للدراسة، فالوثيقة الأساسية التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بعنوان «استراتيجية الأمن القومي- تشرين الأول 2022» مؤلفة من 48 صفحة، ستتبعها تقارير أخرى أبرزها «استراتيجية الدفاع القومي» التي صدرت بالفعل، وتتألف من 80 صفحة، ملحقة معها مراجعة الوضع النووي، ومراجعة للدفاع الصاروخي الأمريكي.
ما يثير الانتباه حقاً، هو أن الإدارة الحالية عازمة على تعقيد الوضع الدولي أكثر، ولا تُظهر أية نيّة للتراجع حتى اللحظة. فرغم أن وثائق كهذه يمكن ألّا تتحول إلى واقع ملموس، وقد تبقى جعجعة فارغة، إلّا أنها قادرة على أن تتحول إلى أوامر تنفيذية في ميادين وقطاعات واسعة، ما يخلق مشاكل حقيقية على مستوى العالم لا ينبغي تجاهلها.
«الولايات المتحدة القائد الأوحد»
تقدّم الولايات المتحدة نفسها كمنقذٍ للعالم الذي يعيش حالة من الاضطراب، فالعالم كما تراه يشهد «منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي» ولذلك ترى الإدارة الأمريكية أنها الأقدر على مجابهة هذه «المخاطر». والمثير للانتباه، أن صياغة التقرير لم تحاول حتى تجنّب التعالي والغطرسة الأمريكية المعهودة، فإلى جانب التأكيد إلى «حاجة عالمية لتؤدي الولايات المتحدة دور القائد» هناك تأكيد أن أمريكا هي البلد الوحيد القادر على ذلك! إذ يقول التقرير بوضوح: إنه: «لا توجد دولة في وضع أفضل للقيادة بقوة وعزم من الولايات المتحدة الأمريكية» ولتحقيق ذلك ينبغي على الولايات المتحدة حسب الوثيقة، أن تتفوق على منافسيها الجيوسياسيين، وأن «لا تترك المستقبل عرضة لأهواء أولئك الذين لا يشاركونها رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن».
لم تستطع الولايات المتحدة حتى اللحظة إدراك أنها ليست الأقدر عالمياً، بل إن الأمثلة التي توردها تكاد تكون بمثابة إدانات واضحة لها قبل غيرها، فالنتائج الكارثية في التعامل مع فيروس كورونا «والتي يوردها التقرير» أظهرت أنها لم تكن بموقع تحسد عليه مطلقاً، بل قدمت أحد أسوأ الأمثلة عالمياً، وكذلك الأمر عند الحديث عن الأزمة الاقتصادية العالمية، فالاقتصاد الأمريكي يهتز كغيره من اقتصادات الدول الغربية، وإنْ كانت واشنطن نجحت حتى اللحظة بتجنب السيناريوهات الأكثر كارثية، فهذا لا يعني أنها قادرة على الخروج الآمن من كل ما يجري. والأكثر من ذلك، أن العالم أدرك اليوم أن مصالح الولايات المتحدة هي التي تؤخذ بعين الاعتبار حتى لو تعارض ذلك مع كل مصالح الكرة الأرضية، فلا مشكلة من احتكار اللقاحات المحدودة، ولا مانع من تجريم وعرقلة عمل الشركات الروسية والصينية التي كانت سباقة في تطوير هذه اللقاحات، حتى لو عرض هذا السلوك حياة ملايين البشر للخطر. واليوم تتمسك واشنطن بأنها هي من تضع «قواعد» هذا العالم مع تجاهلها لذكر القانون الدولي كمرجعية دولية مشتركة!
روسيا والصين
ما يثير الانتباه في هذه الوثائق، هو الحجم الذي خصص فيها للحديث عن روسيا والصين، فعلى الرغم من المحاولة المضحكة للفصل بينهما «وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً» لكن واشنطن تضع تركيزها وإمكانياتها لكبح القوتين الصاعدتين. فأشارت الوثيقة إلى أن الصين لديها النّية والقدرة المتزايدة على «إعادة تشكيل النظام الدولي» وهو ما يفرض على واشنطن بالنسبة لمنظريها التصدي له، ووضع كل الإمكانات لوقفها، أما بالنسبة لروسيا «الإمبريالية حسب الوثيقة» فترى واشنطن أنها تسهم في «زعزعة السلام في أوروبا وتؤثر على الاستقرار في كل مكان». من جهة أخرى، تقدم أمريكا نفسها كصديقة للشعبين الروسي والصيني، وتحاول تثبيت دعايتها المكشوفة بأنها تعادي الحزب الشيوعي الصيني لا الصينيين، والرئيس الروسي فلادمير بوتين لا الشعب الروسي، متجاهلة بأن الحزب الشيوعي الصيني والرئيس بوتين هما ممثلان عن شريحة كبرى في بلديهما، ولا يجوز فصلهما عن هذا التيار الشعبي الواسع.
تحاول واشنطن في الوثيقة التعامل مع روسيا والصين كملفين منفصلين، في محاولة للإيحاء بأن لكل من بكين وموسكو أهدافاً دولية مختلفة. إذ تتجاهل أمريكا الإعلان الصريح من قبل البلدين عن السعي المشترك لبناء عالم متعدد الأقطاب، لا تسيطر فيه الولايات المتحدة على مصير العالم، ولا تستخدم سلطتها المالية المدعومة بالسلاح لنهب ثروات العالم. وتتجاهل أن روسيا والصين لا تتحركان بشكل منفصل، فالعالم الذي تصوره الوثيقة مختلف جذرياً عن العالم الذي نعيش فيه، فـ «تضاؤل القوة الناعمة الروسية والنفوذ الدبلوماسي» يجري في عقل الإدارة الأمريكية، ولا وجود له في الواقع الموضوعي! إذ أن الصين أعلنت منذ أيام، أنها شريك اقتصادي أساسي لأكثر من 140 دولة، ما يعني أن علاقتها مع العالم لا تتسم بالعزلة، بل إن عشرات الدول الكبرى لا ترى في الصين تهديداً كالذي تراه واشنطن، وأما بالنسبة لروسيا فقد نجحت منذ بدء الحرب في أوكرانيا ليس بالحفاظ على حلفائها فقط، بل وتوسيع هذه القائمة، واستطاعت ضمان حياد قوى دولية مؤثرة.
الدور العالمي المتراجع!
الوثائق التي يجري نقاشها لا تأخذ بعين الاعتبار وزن الولايات المتحدة المتراجع، فإذا تجاهلنا كمّ المعايير المزدوجة، والتناقضات الصارخة التي يمكن رصدها بين الفقرات المتجاورة، ينبغي علينا أن نسأل مجدداً: هل يمكن تجاهل قوى كبرى كالصين وروسيا والهند وتركيا ودول الخليج وإيران والقارة الإفريقية ودول أمريكا اللاتينية؟ هل يمكن اليوم أن يُقاد العالم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لأن «صقور واشنطن» يرغبون بذلك؟! لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال واضحة. لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو: ما الذي يدفع الإدارة الأمريكية في هذه اللحظات الحساسة لطرح رؤية استراتيجية «لعقدٍ قادم» مع تاريخ صلاحية محدود؟ العالم يتغير بسرعة كبيرة، ونشر وثيقة كهذه يُعقد الأمور على المسرح العالمي أكثر، ويشكّل عاملاً مربكاً لتيار آخر في واشنطن يرى أنه ينبغي على أمريكا التوقف عن لعب دور «القائد» وخصوصاً أن أقدامهم الضعيفة لم تعد قادرة على رفع هذا الحمل الثقيل!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1094