كيف ردت الصين على زيارة بيلوسي؟

كيف ردت الصين على زيارة بيلوسي؟

يحتل هذا السؤال حيزاً كبيراً من وقت المحللين السياسيين، ومن المساحات المخصصة في وسائل الإعلام، التي غالباً ما يجري ضبطها بعناية فائقة، وتبقى الإجابة عن السؤال المطروح مهمة ضروريةً بغضِ النظرِ عن دوافع أو نوايا السائلين، فالجواب النهائي أكبر من حدود تايوان بكثير، ويكشف قدرة الصين الحقيقية على مواجهة المحاولة الأمريكية المستمرة لإخضاعها.

حددت بكين «خطها الأحمر» وأعلنت وضوحاً: أن زيارة مسؤول أمريكي رفيع إلى تايوان تعدّ تجاوزاً لهذا الخط، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن تجاهلت هذا التحذير، وزارت نانسي بيلوسي تايوان علناً، ما يعني تصعيداً سياسياً كبيراً من جانب واشنطن، وخصوصاً أن منصب رئيس مجلس النواب الذي تشغله بيلوسي يُعد ثالث أهم مركز في هرم النظام السياسي الأمريكي. ولم تقف واشنطن عند هذا الحد، بل تتالت الإجراءات التصعيدية، وهو ما يرفع درجة التوتر إلى حدودها القصوى.

من يرسم حدود هذا الرد؟

نشأ انطباع قبل هبوط طائرة بيلوسي، أن الصين سوف ترد بعملٍ عسكري مباشر ضد تايوان، وعلى الرغم من إسهام التصريحات النارية للمسؤولين الصينيين في خلق هذا المناخ، إلا أن واشنطن أدت دوراً كبيراً في الترويج لسيناريوهات ساخنة كهذه، إلى تلك الدرجة التي نقلت وسائل إعلامٍ أمريكية عن «مصادر مطلعة» أن بكين هددت باستهداف الطائرة، وهو ما ألمح إلى أن الرد الصيني يمكن أن يكون أوسع من حدود تايوان، ليصل إلى حد المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة. لكن وما أن هبطت الطائرة في تايبيه حتى أعلنت بكين أن ردها على هذا الاستفزاز بدأ ولن يتوقف قبل توحيد تايوان مع وطنها الأم. لكننا لم نشهد اجتياحاً عسكرياً صينياً للجزيرة، بل شهدنا مجموعة واسعة من الإجراءات التي تنوعت بين الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، مما شكلت مجتمعة حالة من الضغط الشديد، وهو ما يجعلنا أمام استراتيجية متكاملة وشاملة لا يبدو أن رصد جوانبها المتعددة أمراً يسيراً.

كسر خط الوسط

اقترحت الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، رسم خطٍ فاصل بين تايوان والبر الصيني، وحاولت واشنطن ظاهرياً عبر هذا الاقتراح ضبط تحركات الصين في مضيق تايوان، وعلى الرغم من أن بكين لم تعترف رسمياً به، إلا أنها تعاملت معه لعقود بوصفه «رغبة أمريكية» وبأن هذه الرغبة مفروضة بالقوة الاقتصادية والعسكرية، لذلك حرصت الصين ألا تتجاوز خط الوسط. لكن التحول الجاري منذ الزيارة قلب الموازين تماماً، فأضحى تجاوز القوات الصينية له أمراً يومياً روتينياً. ورغم أن المناورات العسكرية شكّلت ساحة جيدة لبدء هذا التحول، إلا أنها لا تكفي بالرغْم من أهميتها لتوضيح معنى ما يجري. فتجاوز الخط جاء بمثابة إعلانٍ سياسي واضح: الصين تؤدي اليوم دوراً محورياً على الساحة العالمية، ولم تعد المحاولات الغربية لحشرها في إطارٍ محدد مسألة ممكنة. الواقع تغيّر ما يفرض تغيير كل الأطر السابقة. فإن كانت «رغبة» واشنطن ملزمة في ذلك الوقت، فهي لم تعد كذلك اليوم. وما ينطبق على رغبات واشنطن في مضيق تايوان ينطبق على رغباتها في كل محيط الصين الحيوي.

المناورات العسكرية

أطلقت الصين بعد أيام من الزيارة مناورات عسكرية تركزت بشكلٍ أساسي في مضيق تايوان ومحيطها، لتتحرك قواتها المسلحة في هذه المنطقة الواسعة للمرة الأولى في تاريخ البلاد الحديث، المناورات التي سلطت عليها وسائل الإعلام أضواءً كثيرة، استخدمت ذخائر حية وأسلحة نوعية، ونفذ الجيش الصيني في أثنائها عدة تدريبات، حاكى بعضها فرض حصار سريع ومحكم على الجزيرة، واختص البعض الآخر فيها بعمل هجومي مباشر. تتحول المناورات هذه لتصبح جزءاً من روتين القوات المسلحة الصينية، وهو ما يشكّل إرباكاً حقيقاً لتايوان والولايات المتحدة، وخصوصاً، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الروتين الجديد للقوات الصينية من شأنه رفع درجة تحكم الصين في الطرق التجارية البحرية، مما يجرد واشنطن من إحدى أدوات الضغط على بكين.
لم تكتف الصين بتنفيذ مناورات في محيط تايوان، بل أطلقت مناورات في البحر الأصفر بالقرب من حدود الصين الشرقية والشمالية الشرقية، وأعلنت بكين اليوم الأحد 21 آب عن مناورات جديدة في بحر الصين الشرقي، لتكون الصين بذلك ثبتت عزمها الدفاع عن محيطها الحيوي ومصالحها، وصلّبت أسسها العسكرية في كل البحار المحيطة، تمهيداً لإنهاء هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة التي ترسخت بعد الحرب العالمية الثانية. لا تنحصر النشاطات الصينية في بحار المنطقة فحسب، بل جاء الإعلان الروسي الصيني المشترك عن موعد لمناورات عسكرية استراتيجية على مستوى القادة والأفراد في المنطقة العسكرية الشرقية لروسيا الاتحادية، الواقعة شمال حدود الصين صفعة كبرى لواشنطن، خصوصاً أن الجيش الهندي يفترض أن يكون أحد المشاركين في هذه المناورات. الحديث الجاري يشير بوضوح إلى أن القوات الصينية المشاركة ستكون قوات كبيرة، سيجري نقلها إلى روسيا من 30 آب الجاري حتى الخامس من أيلول القادم. وتقوم هذه الخطوة مقام إعلان جديد روسي- صيني لتطوير العلاقات فيما بينهما، ونقلها إلى مستوى نوعي جديد، يلغي الأوهام الأمريكية في تسميم علاقات الشريكين من جهة، ويفرض على واشنطن التعامل معهم ككتلة واحدة صلبة.
ما سبق، جزءٌ يسيرٌ من استراتيجية الصين الموضوعة على طاولة التنفيذ، التي تشمل في أحد جوانبها تمهيداً للمزاج الشعبي لقبول التوحيد القادم، وتبعث رسائل طمأنة وترغيب إلى صينيي تايوان، الذين لم يكن الانفصال مصيراً اختاروه، بقدر ما كان واقعاً فرض عليهم وتعايشوا معه. المسألة كما ذكر في البداية لا تنحصر في تايوان، فالاستفزازات الأمريكية كانت سبباً كافٍ بالنسبة لبكين لإنهاء عصر الإملاءات الأمريكي، ودخولها إلى جانب روسيا في معركة تغيير النظام العالمي.

حظوظ التوحيد السلمي

وضعت الصين خِيار التوحيد السلمي هدفاً لها لعقود، وعلى الرغم من أنها ألغت في كتابها الأبيض الجديد حصرية هذا الخِيار لحل المسألة، فإنه يبقى السيناريو الأفضل، فهو يضمن حل المهمة الوطنية الأولى دون اللجوء للقتال بين أبناء العائلة الواحدة. ويشكّل نموذجاً جديداً للحلول التوافقية السلمية، ومن هذه الزاوية تحديداً يبدو النشاط الصيني في هذه المسألة أكبر مما يظهر على السطح، ففي 14 آب الجاري أشاد المتحدث باسم البر الرئيسي الصيني، بالمساهمات الإيجابية التي يقوم بها «الحزب الجديد التايواني» الذي يعمل حسب المسؤول الصيني على «تعزيز التنمية السلمية للعلاقات عبر المضيق، ويدفع إلى إعادة التوحيد السلمي للوطن الأم»، ليضيف بعدها أن «الحزب الجديد سيلعب دوراً مهما في العلاقات عبر المضيق خلال الأيام المقبلة على أساس الالتزام بمبدأ الصين الواحدة» فبكين ترسخ علاقاتها بمجموعة من القِوَى السياسية داخل تايوان، التي تعارض استقلال الجزيرة، وتبحث عن حلول توافقية، وهو ما يمكن أن يقلب المعادلة، وخصوصاً بسبب ما يرافقه من ضغط سياسي وعسكري واقتصادي على حكام تايوان الحاليين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1084