الدم واحد وعدونا واحد… حول الرهان الصهيوني الأخير
بدأت قوات الاحتلال الصهيوني بجملة من الخطوات التصعيدية التي تحمل في باطنها مؤشرات خطيرة، وتحديات جديدة، لا أمام الشعب الفلسطيني وحده، وإنما أمام شعوب المنطقة كلها، التي تعد المتضرر الأكبر تاريخياً من السياسيات الأمريكية والوجود الصهيوني. فالكيان يسعى في خطوته هذه إلى فرض التصعيد بالشروط التي يريدها فهل ينجح في هذا؟!
بعد انتهاء معركة سيف القدس في 2021 وافقت فصائل المقاومة الفلسطينية بوساطة مصرية وقطرية على التهدئة، بعد أن خضع الكيان لجملة من المطالب، وشهدت جبهات القتال هدوءً نسبياً في الوقت الذي حافظ الشارع على لهيبه، وارتفعت وتيرة عمليات المقاومة التي وصفها إعلام العدو «بالذئاب المنفردة» التي تحركت بنوعٍ من الاستقلالية النسبية عن بنى المقاومة التقليدية. وحققت ارباكاً حقيقياً قاد- إلى جانب عوامل أخرى خطيرة- الكيان للاعتراف بأنه يواجه خطراً وجودياً لن يكون من السهل القفز فوقه.
كيف سارت التطورات؟
تفيد معظم التصريحات الرسمية، أن الكيان التزم للوسطاء بعدم استهداف قيادات المقاومة، لكنه وفي يوم الإثنين 1 آب الجاري، اعتقل القيادي في حركة الجهاد الإسلامي بسّام السعدي من مخيم جنين، مما دفع الوسطاء للتحرك تحت ضغط فصائل المقاومة، التي رأت أن في هذا الاعتقال خرقاً للاتفاق، فما كان من الكيان الصهيوني إلا أن ورّط الوسطاء أكثر بعد أن أعطى بعض التطمينات التي نقلها الوسيط المصري والقطري إلى فصائل المقاومة، التي وجدت نفسها بعد أيامٍ قليلة أمام عملية عسكرية صهيونية في القطاع باسم «الفجر الصادق»، جرى خلالها استهداف قيادات عسكرية ميدانية بارزة في «الجهاد الإسلامي» مثل: الشهيد تيسير الجعبري، والشهيد خالد منصور، مما شكّل ضربة مؤلمة للفصيل المقاوم. بدأت «سرايا القدس» الذراع العسكري للجهاد الإسلامي بالرد وأطلقت حتى الآن أكثر من 600 صاروخ، ووجهت ضربات بقذائف الهاون إلى آليات عسكرية صهيونية في الوقت الذي تستعد قواتها على ما يبدو لتوجيه ضربات أوسع وأكثر إيلاماً.
وراء الأكمة!
قوات الاحتلال أرسلت رسالة واضحة مفادها، أن المستهدف من هذا التصعيد هو «الجهاد الاسلامي» فقط! وأن حماس لن تكون على قائمة الأهداف الصهيونية هذه المرة، الخطوة التي قرأها الجميع بشكلٍ واضح، وهي محاولة جديدة لقسم الصف والاستفراد بأحد الفصائل، وإرباك حماس القادرة على توجيه ضربات صاروخية قاسية إن أرادت. لكن ما ذكّر أعلاه لا يشكّل إلا الأسطر الأولى من رسالة الكيان، فـ «الجهاد الإسلامي» يظهر بوضوح علاقته مع إيران، حتى إن استهداف القيادات العسكرية تزامن مع زيارة أمينه العام إلى طهران الذي جاء رده الأول على الأحداث من هناك، وهو ما يحاول الكيان استخدامه بشكلٍ خبيث، مدّعياً أن معركته هذه المرة مع «إيران وأذرعها في المنطقة» كما لو أن «الجهاد الاسلامي» منظمة هجينة عن تاريخ المنطقة والشعب الفلسطيني المقاوم! فهي واحدةُ من قوى كثيرة تتمسك بخيار المقاومة، واستفادت كغيرها من التغيرات الإقليمية في العقود الماضية، لكن معركة هذا الفصيل أو ذاك هي معركة الفلسطينيين وجميع أحرار المنطقة، وهو ما يدركه الكيان أكثر من غيره، لكن هذه الخطوة الخبيثة تحاول وضع المسألة بشكلٍ ملتوٍ. وتدعي «إسرائيل» إن معركتها الحالية مع إيران لا أمام الفصائل في الداخل الفلسطيني فحسب، بل أمام كل دول المنطقة في محاولة مستميتة لدفعهم للانخراط في معركتها مع إيران من جهة، والتعامل بلا مبالاة اتجاه ما يجري في الداخل الفلسطيني من جهة أخرى، بعد أن يستخدموا الذريعة الصهيونية ذاتها... خاصة مع المستجدات الدولية والإقليمية بعد زيارة بايدن التي منيت بفشل ذريعٍ في كل مساعيها، ومساعيها الصهيونية خصوصاً.
الرهان الصهيوني الكبير
لعبت الوساطة المصرية والقطرية في السابق دوراً في الصراع، فعلى الرغم من أن الدور المصري دورٌ تاريخي في القضية الفلسطينية، إلى أن الولايات المتحدة والصهاينة حرصوا على تقزيمه منذ كامب ديفيد، وهو ما فسح المجال لدور أكبر لقوى إقليمية أخرى بعد تحييد الفاعلين الأساسيين، لكن توريط الوسطاء بهذا الشكل الوقح يعني أن الكيان مضطر في هذه اللحظة لحرق هذه الورقة، فقدرة مصر للعب هذا الدور مرهونة بوجود الحد الأدنى من الثقة مع الفصائل الفلسطينية، التي وإن استبعدت سوء النوايا، لن ترى في مصر ضامناً حقيقياً بعد الذي يجري، ما يحرم الكيان من إحدى القنوات الرئيسية مع الفصائل، ويجعل مصر في موقع أصعب يفرض عليها مراجعة شاملة لسياستها في هذه المسألة وغيرها.
لا تخلو «المغامرة» الصهيونية من الخطورة، فرهانها كبير هذه المرة إلى الدرجة التي يتناسب فيها مع التحديات الوجودية الماثلة أمامها، فحرق الأوراق المهمة يعني خسائر هائلة بالمعنى الجيوسياسي، إذا ما فشلت هذه الخطوة. الرهان الصهيوني الأساسي هو محاولة تعميق الشقاق بين الفصائل الفلسطينية المقاومة، لقطع الطريق أمام احتمالات لم شملها؛ وهي الاحتمالات التي باتت أكثر واقعية مع المستجدات الجارية على الصعد المختلفة، وذلك رغم أنّ استعادة وحدة الصف الفلسطيني قد تبدو بالنسبة للكثيرين مهمة شديدة الصعوبة، إلا أنّ الواقع الموضوعي نفسه هو ما يدفع باتجاه حلّها، وضمن آجال غير بعيدة... ولعل المحاولة الجزائرية الجادة بهذا الاتجاه، هي جزء من محاولات متعددة تسعى بالاتجاه نفسه.
من جهة أخرى، فإنّ مسؤولي الكيان، أكثر من أي أحد آخرون، يعلمون بشكل موثوق أنّ الاتجاه الانسحابي للولايات المتحدة الأمريكية من المنطقة قد تعزز ما بعد أوكرانيا، وسيتعزز أكثر بعد تايوان، ولذا فإنّ محاولة إحراز أكبر قدر من النقاط قبل وصول هذا الانسحاب إلى نهاياته، بات مطلباً «إسرائيلياً» ملّحاً...
الرد على رهانات الصهيوني كلها، يمكن أن يبدأ من الداخل الفلسطيني أولاً، فقد أعلن الكيان «أن العملية العسكرية أنهت أهدافها العسكرية» وأنها ترغب في الذهاب إلى تهدئة، وهو ما ترفضه منظمة «الجهاد الإسلامي» حتى اللحظة، التي تستطيع الرد مع قوى المقاومة الأخرى بشكلٍ مشترك، فالقاتل واحد، ودم شهدائهم واحد، من أحمد ياسين ويحيى عياش إلى تيسير الجعبري وخالد منصور وغيرهم من مئات الأبطال المقاومين. اللحظات الحالية حساسة جداً وقد تؤدي أية خطوة غير محسوبة إلى اتساع دائرة الصراع لتشمل كل دول المنطقة، لكن المهم فلسطينياً، ألا ينجح الكيان بشق الفصائل المقاومة التي ستكون المتضرر الأول من هذا وتحديداً على النطاق الشعبي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1082