بيلوسي خالفت التوقعات... هل تقوى واشنطن على تحمل التبعات؟
بعد سلسلة من المناورات أنهت طائرة رئيسة مجلس النواب الأمريكي أياماً من التكهنات وهبطت بالفعل في تايوان الصينية بعد أن سلكت طريقاً بعيداً عن المضيق المتوتر، زيارة نانسي بيلوسي هذه تجاهلت كل التحذيرات الصينية، ووضعت العالم مجدداً في مواجهة تصعيد خطير ستكون الولايات المتحدة هي نفسها أكبر الخاسرين منه!
رجّحت جملة من المعطيات السابقة إلغاء هذه الزيارة، وتحديداً عندما تجاهلت بيلوسي ذكر اسم تايوان ضمن محطات زيارتها الآسيوية، وهو ما جرى قبل أيام قليلة من وصلوها إلى الجزيرة بالفعل! لتؤكد الوقائع مجدداً أن بيلوسي مع من تمثله في واشنطن عازمة على التصعيد إلى تلك الدرجة التي بدت الخطوة بالنسبة للغالبية العظمى من المراقبين والمحللين السياسيين في مثابة انتحار لواشنطن، فعلى الرغم من أنها ترى بعض المنافع من هذا التصعيد، لكنها لن تكون قادرة على احتواء نتائجه السريعة، والتي بدأت منذ اللحظات الأولى بالفعل، وتحولت بعد أيام إلى جحيم لا يمكن إيقافه.
كيف ترد الصين على الخطوة؟
لم يعد خافياً على أحد أن الصين أطلقت مناورات عسكرية واسعة غير مسبوقة- وهو ما سنشير إلى معناه ونتائجه لاحقاً في هذه المادة- إلا أن هذه المناورات ما هي إلا خطوة من ردٍ صيني شامل وعلى كل الجبهات. فأعلنت وزارة الخارجية الصينية في بيان مقتضب تعليق التعاون مع الولايات المتحدة في عدد من المسائل، وألغت بعضاً من الاجتماعات المقررة مسبقاً، مثل: مباحثات قادة مسرح العمليات، والمباحثات المقررة لتنسيق سياسة الدفاع بين البلدين، وإلغاء اجتماعات متعلقة بالتنسيق بين قواتهما البحرية. وعلّقت الخارجية الصينية حسب البيان المذكور التعاون في إعادة اللاجئين غير الشرعيين، والتعاون في المسائل الجنائية والجرائم الدولية ومكافحة المخدرات، وعلّقت المحادثات القائمة بين البلدين بشأن المناخ. وبحسب مسؤولين أمريكيين: انتقت الصين مسائل محددة تكون آثارها سلبية على واشنطن أكبر بكثير من آثارها على الصين، التي أبقت بعض مجالات التعاون مفتوحة بما يتماشى مع مصالحها. هذا بالإضافة إلى مجموعة من العقوبات التي استهدفت بيلوسي. ولم تكتف الصين بالخطوات باتجاه الولايات المتحدة، بل أوقفت بعض مجالات التعاون مع تايوان، التي تعتمد على الصين في العديد من ميادين التجارة الخارجية، هذا بالإضافة إلى استهداف مؤسسات تراها تنتهك مبدأ الصين الواحدة المعترف به دولياً.
ومن أبرز الإشارات السياسية، كان إعلان وزير الخارجية الصيني عن «جاهزية بلاده لتعزيز التعاون الاستراتيجي مع روسيا»، وقال وانغ يي: «إن الصين جاهزة لتعزيز تعاونها الاستراتيجي مع روسيا لحماية النظام الدولي الذي تلعب الأمم المتحدة دوراً مركزياً فيه، والنظام القائم على أحكام القانون الدولي، بشكل أكثر فعالية».
«صراع بين عالمين»
تعمل الصين وروسيا بشكل معلن لإحداث تغييرات جوهرية في النظام العالمي، وتعبر الدولتان عن هذا بالقول: إن واشنطن تخلّت عن النظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت تفرض ما تسميه «النظام القائم على القواعد» مما بات يستوجب تدخلاً من القوى الأخرى بغية تغييره، وهو ما يشكّل الأساس الاستراتيجي لعلاقة الصين وروسيا، لكن الخطوات الملموسة لإنجاز هذا الهدف بدأت خجولة ثم تسارعت، ومع ذلك بقيت بعض الضوابط على البلدين القيام بالخطوات الملموسة والمحددة في الظرف المواتي، ويبدو أن الصين باتت أكثر حذراً مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فالظرف الدولي في حالة حساسة جداً، وأدركت بكين أن خطواتها في هذه اللحظات بالذات يجب أن تكون أشد دقة، لكن السلوك الأمريكي في تايوان أثبت أن واشنطن عازمة على التصعيد ولن تنتظر الذرائع لفعل ذلك، وهو ما يستوجب رداً صينياً على المستوى الإستراتيجي. فإذا كانت واشنطن عازمة على توتير جبهتين معاً وتحاول استفزاز الصين التي قد تجد نفسها «أكثر جاهزية لتعزيز التعاون مع روسيا» وإن كانت «الشراكة الاستراتيجية» بين البلدين أثبتت خلال السنوات الماضية صلابتها، فقد يكون الوقت ملائماً لإعلانها تحالفاً شاملاً يضع على جدول أعماله المشترك ضرب مشعلي الحروب وتثبيت القواعد الدولية الجديدة.
مناورات عسكرية
أعلنت الصين عقب هبوط طائرة بيلوسي عن البدء بمناورات عسكرية بالذخيرة الحية، وحددت مسرحاً لعمليات هذه المناورات في ستة مناطق تحيط في تايوان من كل الجهات، لتطبق خلال الساعات التي تلت هذا الإعلان حصاراً شاملاً على الجزيرة فرض إيقاف حركة الملاحة في مضيق تايوان المزدحم. وبدأت القوات الصينية باستعراضٍ للقوة شكّل صدمة لم تنته حتى اللحظة. فالقوات المشتركة الصينية نجحت في تثبيت مواقعها في سرعة خاطفة. وفرضت المناورات واقعاً جديد لن ينته غالباً بانتهائها. وحددت صحيفة الشعب الصينية بعض أهداف ونتائج هذه المناورات، فقد أثبتت نقاط تموضع الجيش عدم اعتراف بكين بـ «خط الوسط» الذي حاولت واشنطن فرضه منذ عقود، بالإضافة إلى نجاح المناورات في إطباق الحصار على ميناء كيلونغ أهم موانئ تايوان، وأخذ الجيش الصيني مواقع مواجهة لقاعدتين عسكريتين للجيش على الشاطئ الشرقي للجزيرة، هذا بالإضافة إلى تمركز جزء من القوات في قناة باشي مما يعني السيطرة الكلية على مدخل المضيق. هذا بالإضافة إلى تحليق أسراب الطائرات دون توقف، كما وأطلقت الصين صواريخاً باليستية، وصواريخ فرط صوتية سقط بعضها في المياه الاقتصادية الخالصة لجزر اليابان الجنوبية، وقطع بعضها الآخر أجواء الجزيرة كاملة ليسقط في البحر. كل هذا شكّل إرباكاً حقيقياً لتايوان وجيشها، الذي كان يضطر للتعامل مع كل طائرة أو صاروخ يقترب من مجال دفاعاتها هذا إن نجحت في التقاطها أصلاً، وبالإضافة إلى الذعر الذي انتشر في صفوف الجيش في تايوان لم يكن وضع البحرية الأمريكية أحسن حالاً، فوجدت نفسها في مسرح العمليات مما دفع واشنطن لإبعاد حاملة طائراتها باتجاه اليابان، والأخطر، أن القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة لا تستطيع التعامل مع الوضع في حال تطور أكثر! وخصوصاً أن القادة العسكريين الصينيين يرفضون الرد على محاولات التواصل الأمريكية حسب ما ذكر موقع بوليتكو. الذي فرد أحد تقاريره لمناقشة الكنز الاستخباراتي والعسكري الذي كسبته الصين في مناوراتها، فقد اختبرت الأخيرة ولأول مرة جاهزية قواتها وباستخدام الذخيرة الحية وفي مسرح العمليات المفترض ذاته! أي أن الصين أجرت محاكاة لحصار الجزيرة والسيطرة عليها عسكرياً في المواقع الفعلية لعملية كهذه. ورصدت استجابة الجيش التايواني لكل ما يجري من حوله وتحديداً رادارات الدفاع الجوي واستطاع الجيش الصيني تحديد الأهداف التي نجحت في رصدها، وتلك التي لم ترصد! وقد أشار التقرير ذاته إلى عمل هذه القطاعات العسكرية مجتمعة يعد المهمة الأصعب في الحروب الحديثة، فالقطاعات العسكرية المتنوعة تعمل جنباً إلى جنب وفي دوائر تقاطع قد تسبب إرباكاً في بعض الحالات، لكن الجيش الصيني نجح في إتمام مهامه على أكمل وجه!
من المفترض أن تنتهي المناورات حول جزيرة تايوان يوم الأحد 7 آب الجاري، لكن الصين أعلنت عن بدء مناورات جديدة في البحر الأصفر بالقرب من شبه الجزيرة الكورية، وأعلنت أن المناورات ستجري في الذخائر الحية أيضاً، وأنها ستستمر لغاية 15 آب الجاري، أي أن نشاط الصين العسكري لن ينحصر بعد الآن في مسألة تايوان، بل ستذهب أبعد من ذلك لتحديد مناطق نفوذها العسكري وهو ما لا يمكن إنجازه إلا على حساب التواجد الأمريكي في آسيا. فالإعلان عن المناورات الجديدة، وما قد يعقبها يشكّل التوجّه الصيني المرادف للعقيدة العسكرية الروسية الجديدة، حيث ينتقل البلدان وفي الوقت نفسه للدفاع بشراسة عن مناطق نفوذهم الطبيعية، وهو ما سيفرض على الولايات المتحدة تنازلات كبرى، أو الدخول في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع القوى الأكبر في العالم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1082