زيارة بيلوسي إلى تايوان… هل ترتكب واشنطن حماقة جديدة؟
أثارت أنباء زيارة نانسي بيلوسي- رئيسة مجلس النواب الأمريكي- إلى تايوان، موجة جديدة من التفاعلات والتصعيد في ملف الجزيرة، والذي بات ينتقل تدريجياً إلى واجهة الأزمات العالمية بوصفه إحدى أكثر النقاط سخونة، وتحديداً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مخاطر تحوله إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين واشنطن وبكين. فهل يتجه الملف الشائك إلى هذه المواجهة الخطرة بالفعل؟!
تداولت وسائل الإعلام الأمريكية أنباءً تفيد عزم بيلوسي زيارة تايوان كإحدى محطات جولتها في آسيا، والتي ستشمل أيضاً اليابان وسنغافورة وإندونيسيا وماليزيا. الحديث عن هذه الزيارة- وعلى الرغم من أنها لم تُؤكَد رسمياً بعد- كان كافياً لإطلاق جملة من ردود الفعل الصينية الحاسمة، والتي سببت ارتباكاً حقيقياً في دوائر صنع القرار الأمريكي، والتي تبيّن أنها منقسمة حول خطوة رئيسة مجلس النواب أصلاً.
رد الخارجية الصينية
ما أن بدأت وكالات الأنباء بتداول هذا الخبر حتى أعلن المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان، أن الصين تطالب واشنطن بعدم تنظيم زيارة بيلوسي إلى تايوان، وطالبها بالالتزام بالاتفاقات الصينية الأمريكية بهذا الخصوص، معتبراً أن تنظيم هذه الزيارة يُعد خرقاً «للبيانات الثلاثة» الموقعة بين البلدين وإخلالاً بمبدأ «الصين الواحدة» الذي تتبناه واشنطن رسمياً. وأضاف المتحدث باسم الخارجية، أن خطوة تصعيدية كهذه لن تمر دون رد، وأن بكين «ستتخذ إجراءات حاسمة لحماية سيادتها ووحدة أراضيها» كما وعبر تشاو لي جيان أن هذا التصعيد الأمريكي «سيؤثر جدياً على الأساس السياسي للعلاقات بين بكين وواشنطن». الحديث المستمر عن الزيارة دفع الخارجية الصينية لإطلاق موجة جديدة من التصريحات في 21 من شهر تموز الجاري، وأكدت مجدداً أن هذه الخطوة «ستكون بمثابة ضربة خطيرة للأساس السياسي للعلاقات الصينية الأمريكية» ووضحت على لسان المتحدث الرسمي بأن تمسك الجانب الأمريكي بموقفه سيدفع الصين لاتخاذ تدابير فعالة للرد والتصدي بحزم، محذراً: أن بكين «سوف تفي بوعدها» في هذه الحالة.
سحب داكنة وعواصف عاتية!
هذه التصريحات- والتي ترافقت بخطوات عسكرية واضحة- دبّت الرعب في قلوب البعض في الولايات المتحدة، وخصوصاً أن وزير الخارجية الصيني قال قبل أسابيع في خطاب أمام أمانة رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان» أن «الاستقرار على جانبي مضيق تايوان يعتمد على التمسك بمبدأ الصين الواحدة. وعندما يتم الاعتراف الكامل بهذا المبدأ، تتطور جميع جوانب مضيق تايوان بشكل سلمي. ولكن عندما يتم الطعن فيه أو تخريبه، فإن غيوماً أو حتى عواصف عاتية ستبتلع شواطئ مضيق تايوان». كل هذا دفع تياراً واسعاً داخل واشنطن للتروي أو إلغاء هذه الزيارة المشؤومة، وأشارت مجلة «فايننشال تايمز» إلى معارضة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان لهذه الزيارة إلى جانب آخرين، كونها تعني تصعيداً لا تحمد عقباه، وتضع واشنطن في مواجهة خطرة مع بكين، ليعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم الخميس 21 تموز واستناداً إلى تقرير أعده الجيش الأمريكي، أن «الزيارة لا تعدّ فكرة جيدة». بيلوسي في ردها على هذه التطورات لم تؤكد أو تنفي عزمها القيام بهذه الرحلة، وأشارت إلى أنها اطلعت على تقرير للجيش ينبه من احتمال إسقاط طائرتها من قبل الصين.
لماذا تخلّ واشنطن بتعهداتها؟
يكرر المسؤولون الصينيون بعض العبارات دائماً عند الحديث عن تايوان، ويذكرون واشنطن بمضامين البيانات الثلاث التي رسمت شكل العلاقات السياسية بين البلدين، ويجري الحديث تحديداً عن بيان شنغهاي الذي صدر في 28 شباط 1972 والبيان المشترك حول العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بتاريخ 1 كانون الثاني 1979، والبيان المشترك بشأن مبيعات الأسلحة إلى تايوان الصادر في 17 آب 1982. وتؤكد هذه الوثائق الثلاث، اعتراف واشنطن بمبدأ الصين الواحدة، الذي يؤكد شرعية حكومة بكين كحكومة وحيدة للصين، ويؤكد أيضاً أن تايوان جزءاً لا يتجزأ من الصين، وتضيف هذه البيانات في بنودها الكثيرة، تعهداً صريحاً من قبل واشنطن بأن تقتصر علاقاتها مع تايوان على الجانب الثقافي والتجاري، وألا تبني واشنطن علاقات رسمية مع الجزيرة. وظلت قضية تسليح تايوان من قبل الولايات المتحدة موضوعاً خلافياً حتى تم الاتفاق على حل هذه المسألة بالتدريج. في مقابل هذه التعهدات الأمريكية تقدّمت الصين بخطواتٍ من جانبها، تعهدت بحل هذه المسألة بالوسائل السلمية.
«الصين الواحدة» في واشنطن
لا شكّ أن زيارة بيلوسي تعد خرقاً واضحاً لسياسة الصين الواحدة، كونها تعتبر زيارة رسمية لمسؤول أمريكي يشغل المنصب الثالث من حيث الأهمية في الولايات المتحدة، وهي الخطوة التي لم تجرِ منذ العام 1979، بالإضافة إلى أنها تعطي إشارة واضحة لحكومة تايوان بدعم أمريكي على المستوى الرسمي، مما يشكّل تحدٍ واضح لبكين. وتقرأ الأخيرة الرسائل جيداً، فتأكيد التصريحات على أن التصعيد الأمريكي يقوض أساس العلاقة السياسية بين البلدين، يراد من خلاله تذكير واشنطن أن الاعتراف الأمريكي بهذا المبدأ شكّل أساس بناء العلاقات بين البلدين. لكن وكما يبدو أن بعض صناع القرار في واشنطن يرون أن الصين «أخلّت بروح الاتفاق» الذي أفضى لتطبيع العلاقات بين البلدين، فإقرار واشنطن بسيادة بكين على تايوان كان تنازلاً أمريكياً بهدف استدراج الصين بعيداً عن الاتحاد السوفييتي وروسيا لاحقاً، واليوم يرى رجالات السياسة الأمريكية أن البلدين باتا في حالة أقرب إلى تحالف شامل غير معلن، مما يدفع البعض للتفكير بأن الوقت قد حان لسحب «الهدية القديمة»، فوزير الدفاع الأمريكي السابق مارك إسبر زار تايوان مؤخراً، وقال في تصريحات صحفية: إن «سياسة الصين الواحدة عفا عليها الزمن» موضحاً ضرورة زيادة الإنفاق العسكري من قبل الحكومة في تايوان، وإطالة فترة الخدمة العسكرية الإجبارية والتمرين على العمليات العسكرية غير المتكافئة. إسبر وعلى الرغم من أنه لا يحمل اليوم صفة رسمية، إلا أنه يعبّر عن مزاج محدد داخل النخب الأمريكية، والتي ترى نفسها مضطرة للتلويح بسحب الاعتراف «بالصين الواحدة» في مواجهة كل خطوة للتقارب بين الصين وروسيا. وتضع في المقابل مجموعة من السيناريوهات للتصعيد.
السيناريو الأخطر
أعلنت اليابان منذ أيام عزمها رفع الإنفاق العسكري ليصل إلى 2% من الناتج الإجمالي للبلاد، وفي وثيقة عسكرية صدرت بشكل متزامن مع التصعيد الأمريكي، كانت هناك إشارات معادية من قبل اليابان لروسيا والصين، ورأت الوثيقة أن الحرب الروسية في أوكرانيا قد تدفع الصينيين لخطوات مماثلة في تايوان، مما بات يعطي إشارات إضافية إلى أن واشنطن تحاول حشد قوى في آسيا، مثل: اليابان وكوريا الجنوبية للاشتباك مع الصين في حال تطور ملف تايوان أكثر، وبعيداً عن تقييم قدرة واشنطن على النجاح في حشد هذه الدول في الاتجاه المطلوب، إلا أنها قادرة على رفع درجة التوتر إلى درجات غير مسبوقة، وفي المقابل، تجد بكين نفسها يوماً بعد يوم أمام احتمالات محدودة. فإما انتظار تايوان حتى تمتلئ بالأسلحة الأمريكية، وإما أن تجد حلاً لتسريع عملية توحيد الصين، حتى وإن لجأت للخيار العسكري الذي تؤكد بعض المصادر الأمريكية أن الصين وضعته على الطاولة فعلاً في أحد اللقاءات مع واشنطن.
الصراع على تايوان له أبعاد متعددة وأي تطور جديد في هذه المسألة من شأنه أن يزيد من شدة الزلزال العالمي الذي بدأ بالفعل، الصين تهدد بوضوح، فعلى واشنطن الالتزام بتعهداتها السابقة، وإذا لم تفعل سيكون العالم على موعد جديد لحدث ربما يكون تأثيره أوسع من تأثيرات الحرب في أوكرانيا، فسيطرة الصين على شواطئ تايوان يعني السيطرة على ضفتي المضيق، أي خنق الطريق البحري، وتسريع عملية توحيد الجزيرة مع البر الصيني يعني سيطرة الصين على أهم حلقات سلاسل التوريد وغيرها من الآثار الكبرى. تشكّل هذه الاحتمالات والكثير غيرها عوامل مقلقة لواشنطن، وهبوط طائرة بيلوسي في تايوان إن حصل فعلاً سيكون صافرة البداية لمرحلة تحول جديدة قد تسرّع من الانهيار الأمريكي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1080