الهند حاضرة وبقوة: «مشاكل أوروبا ليست مشاكل العالم»
عقد منتدى غلوبسيك الأوروبي نسخته لعام 2022 في بداية شهر حزيران، وهو منتدى فكري متخصص بالأمن الأوروبي، ومقره العاصمة السلوفاكية براتيسلافا، ويعتبر مشابهاً إلى حد ما لمؤتمر ميونخ للأمن في أوروبا الغربية، استضاف المنتدى هذا العام مجموعة من السياسيين والقادة حول العالم، بلقاءات فردية سواء عبر اتصال الفيديو أو بالحضور المباشر، وكان من بينهم وزير الخارجية الهندي سوبرانيام جايشانكار، الذي قدّم ردوداً وانتقادات حادة وهامة تتعلق بالسياسة الأوروبية وموقع الهند منها ومن القضايا الدولية.
نعرض في هذه المادة أبرز النقاط التي تحدث فيها وزير الخارجية الهندي
سوق النفط عالمياً
وجهت المضيفة سؤالاً لجايشانكار حول ارتفاع نسبة استيراد النفط إلى الهند بـ 9 مرات بين عامي 2021 و2022 وتحديداً منها ما يتعلق بالاستيراد من روسيا، وحول معاني هذا الأمر بالنسبة للهند ومصالحها ربطاً مع سياستها الخارجية، في إشارة منها إلى أن هذا السلوك الهندي يتعارض مع موقف عدم الانحياز فيما يتعلق بالخلافات الروسية الغربية.
ليجيبها جايشانكار «بصراحة لا أرى أي رابط بين النفط وعدم الانحياز، اليوم أوروبا تشتري النفط، وأوروبا تشتري الغاز... لقد قرأت للتو حزمة العقوبات الجديدة، هذه الحزمة مصممة بطريقة تأخذ بعين الاعتبار وتراعي رفاهية السكان [الأوروبيين]، فالأنابيب لديها استثناء محدد، وهناك مواعيد محددة، أي أنه لن يجري قطع كل شيء بدءاً من صباح الغد، ولذا على الناس فهم أنهم إذا كانوا يراعون بأنفسهم فبالطبع بإمكانهم مراعاة الآخرين، ولذا إذا قالت أوروبا «علينا أن نتعامل مع الأمر بطريقة لا تؤثر على اقتصادنا بطريقة كبيرة» فهذه الحرية، وهذا الخيار ينبغي أن يكون موجوداً للآخرين أيضاً».
وحول ربط شراء النفط بالسياسة الخارجية قال جايشانكار «نحن لا نرسل الناس ونقول لهم اشتروا النفط الروسي، نحن نرسلهم ونقول لهم اشتروا النفط.. وسنقوم بالتالي بشراء أفضل نفط موجود في السوق، ولذا لا أعتقد أنني سأربط رسالة سياسية مع هذا الأمر».
وفي إجابة عن سؤال للمضيفة معتبرة به أن شراء الهند للنفط الروسي يُعد تمويلاً لروسيا، ربطاً مع أحداث أوكرانيا، وتمويلاً لـلحرب نفسها، ليجيبها الوزير الهندي «أليس شراء الغاز الروسي تمويلاً أيضاً؟ هل هو المال الهندي والنفط القادم إلى الهند الذي يُمول الحرب؟ ولكن ليس الغاز القادم إلى أوروبا؟».
ثم توجه جايشانكار بحديثه إلى النقطة المتعلقة بازدياد استيراد النفط الهندي 9 مرات من روسيا، مشيراً إلى أن هذا الازدياد «انطلق من نسبة ضئيلة، لأن السوق قد كانت أكثر انفتاحاً في ذلك الوقت، فإذا كانت الدول الغربية والولايات المتحدة وأوروبا مهتمين جداً بهذا الأمر، لم لا يسمحون بتواجد النفط الإيراني في السوق؟ لم لا يسمحون بتواجد النفط الفنزويلي في السوق؟ لقد قلصوا كل مصدر نفطي آخر لدينا، ومن ثم يقولوا لنا لا تذهبوا إلى السوق وتعقدوا أفضل اتفاق بالنسبة لشعبكم، إنه ليس سلوكاً عادلاً».
دور الهند في أزمة الحبوب والغذاء
انتقلت المضيفة بعد ذلك للحديث عن القيود المفروضة على صادرات القمح والغذاء، مشيرة إلى مخاطر تقلص هذه الموارد على مناطق الجنوب والشرق في العالم، مرجعةً ذلك إلى روسيا وعمليتها العسكرية في أوكرانيا، مكررة بذلك البروباغندا الغربية حول الأمر، مشيرة إلى أن الهند تقوم بالفعل نفسه فيما يتعلق بحظر صادراتها، وتسأل «هل يُعد هذا الأمر دعماً لروسيا، أم أنه شيء مختلف تماماً نحن لا نفهمه في الغرب ووجهة نظركم مختلفة؟».
ليجيبها الوزير باختصار «أعتقد أن الإجابة هي، أنتم لا تفهمون في الغرب» وتابع «ليس الغرب فقط، أعتقد أن الناس لا تتفهم هذا الأمر، لأنهم لا يتابعون التجارة حقيقةً... لقد كنا نصدر القمح، وعادة ما نصدر مليونين إلى 3 ملايين طن، وكان العام الماضي أفضل حيث صدرنا حوالي 7 ملايين طن، أما هذا العام تضررنا من موجات الحر» مشيراً إلى أن الهند ورئيس وزرائها قال عدة مرات، أن البلاد ترى الأزمة الغذائية في العالم وأرادت مساعدة الدول الأجنبية قبل التضرر، و«لكن لاحظنا لاحقاً وجود سباق على قمحنا من التجار الدوليين الموجودين بشكل أساسي في سنغافورة ودبي إلى حد ما، والنتيجة كانت أن دول بموارد مالية قليلة وهم المشترون التقليديون لدينا كجيراننا من بنغلادش وسريلانكا ونيبال... واليمن يشتري منا والسودان يشتري منا، وما لاحظناه أن هذه الدول ذات الموارد المالية القليلة يجري استبعادها... كان يجري استغلال طيبتنا، وبذلك كان علينا فعل شيء لإيقاف هذا الأمر، وذلك أيضاً لتأثير الأمر علينا داخلياً، حيث كانت الأسعار ترتفع... ما فعلناه بالحقيقة، هو أننا قلنا: إننا لن نعطي المضاربين مجالاً مفتوحاً لدخول السوق الهندية بما يضر بالمستهلك الهندي، والدول الأقل تطوراً، وما نفعله هو أينما نرى دولة بحاجة للقمح وتستحقه نقوم بإمدادها».
وتابع جايشانكار «وذلك لمنع تحويل الأمر لصالح الدول الأكثر غنى ولديها فرصاً أفضل، فما جرى في اللقاحات لا نريده أن يجري في القمح أيضاً، حيث تلقى الأشخاص الأغنياء اللقاحات بينما ترك الفقراء لمصيرهم».
اصطفاف الهند مع الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية؟
نقلت المضيفة سؤالاً وجه إلى وزير الخارجية الهندية من أحد المحللين الاستراتيجيين للوضع الجيوسياسي في وول ستريت هو «بحال وصل الحال إلى فرض خيار محدد مستقبلاً، وهو ما نؤمن به كثيراً، هل ستقف الهند لتدعم الولايات المتحدة أو الصين؟ وهو موقف أساسي ومحدد يأتي من الحال التي نواجهها الآن مع روسيا».
قال الوزير الهندي «عند مرحلة ما يجب على أوروبا أن تخرج من هذه العقلية، أن مشاكل أوروبا تعد مشاكل العالم، بينما مشاكل العالم ليست مشاكل أوروبا.. إنني أرى انعكاسات لذلك، هناك رابط يجري وضعه اليوم بين الصين والهند وما يجري في أوكرانيا، لكن الموضوع الهندي- الصيني أقدم بكثير مما جرى في أوكرانيا، الصينيون ليسوا بحاجة أن يقول لهم رئيس أجنبي ما أن يكونوا حادّين معنا أم لا، وبذلك لا أرى هذا الجدال ذكياً، وإنما يخدم النفس فقط [يخدم الأوروبيين]».
وتابع «حول الفكرة بكيفية اتخاذ خيار استراتيجي، سأفعل مثلما يفعل الجميع، سأقوم بدراسة الوضع»
لتقاطعه المضيفة مقدمةً حجتها بالقول «سيكون هناك على الدوام محوران في العالم، وأعتقد أن هناك حقيقة متفق عليها في هذه اللحظات، أن هناك الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وهناك الصين، فأين تقف الهند؟».
أجاب جايشانكار «هنا أختلف معك تماماً، فهذا منطق محدد تحاولين فرضه عليّ، وأنا لا أقبل به، لا أعتقد أنه من الضروري عليّ أن أنضم لهذا المحور أو لا، وإذا لم أنضم إليه لا بد أن أكون مع المحور الآخر، لا أقبل بذلك... أعتقد أنني أشكل خمس سكان العالم، وأنا اليوم خامس أو سادس أقوى اقتصاد في العالم.. أعتقد أنني مخول لأتخذ طرفي الخاص، ومخول لحساب مصالحي وانتقاء خياراتي، وخياراتي هذه لن تكون قائمة على صفقات، وإنما كتوازن لقيمي ومصالحي الخاصة، لا توجد دولة في العالم تتجاهل مصالحها».
لتتابع المضيفة بعد ذلك سؤالاً آخر «ما هو موقع الهند من المسرح العالمي؟ إذا تحدثت عن خمس سكان العالم، لا يمكنك بالتالي أن تكون محايداً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، عدم الانحياز لا يُعد أمراً جيداً... ما هو موقع الهند، فالبقاء محايداً لا يعُد أمراً جيداً كقيادة عالمية».
قال الوزير «لا أعتقد أنني محايد، ألا أتفق معك لا يعني أنني محايد، بل يعني أنني أتخذ موقفي الخاص، ما هي التحديات العالمية؟ إنها التغيّر المناخي، وأعتقد أنني جذريّ جداً في طرحي لحلّ هذا الأمر، وأشكل مثالاً به، وأن أكون ميداناً يتيح الانتقال للتكنولوجيا الخضراء، وهناك الإرهاب، وهناك ظهور نظام عالمي [جديد]، وانظري إلى قضايا الأمن، وأهداف تطوير الاستدامة، إذا أخذت أي جزء أو كل التحديات العالمية ستجدين أن جزءاً من الإجابة عليها يأتي من الهند أو يعود للهند... هناك العديد من الأمور تجري خارج أوروبا، منها ما يتعلق بالكوارث البيئية الطبيعية، ونقوم بالاستجابة لها في الجزء الموجودين به بالعالم اليوم، العديد من الناس ينظرون إلينا اليوم للمساعدة، بينما لم يعد ينظر أحد إلى أوروبا، ولذا فالعالم يتغير ،هناك لاعبون جدد وقدرات جديدة تظهر، العالم لم يعد بإمكانه أن يتمركز حول أوروبا كما كان الحال سابقاً».
تكثيف
ما كان يقوله ويتحدث به وزير الخارجية الهندي، فضلاً عن كونه جديداً بدرجة وضوحه ومعانيه وانتقاداته لأوروبا، فإنه يتعلق تماماً بالفضاء السياسي الجديد الناشئ عن الموازين الدولية الجديدة التي تتبلور اليوم، ومنها الفكرة القديمة والمتماوتة المتعلقة بالأحادية و/أو الثنائية القطبية التي يصعب على الكثيرين- ومنهم المضيفة نفسها كمثال- على أن تفهم التغيّر فيها، وتفهّم أن هذا التفكير وهذه النظرة لم تعد تتلاءم أو تصلح للعالم المعاصر، والذي يُبنى ويتشكل على أساس «التعددية القطبية» والتي تشكل الهند ضمنه أحد أطراف هذه التعددية، وهو جوهر ما كان يتحدث به جايشانكار بأنه ليس على الهند الانضمام او الاصطفاف مع أي من المحورين الأمريكي أو الصيني، فالهند بنفسها تشكل محوراً أيضاً، وأكثر من ذلك أنه: محور موازٍ ومساوٍ للمحور والوزن الأوروبي الذي لم يعد مركزاً عالمياً، وبسياسات جديدة لا تحابي الدول الغنية كمثال النفط الإيراني والفنزويلي أو اللقاحات والقمح، وإنما بسياسات تكافؤ وتعادل وتنمية عالمية، وهذا الحديث لا يعبر عن الهند فقط، وإنما عن مجمل مجموعة دول البريكس التي تضم بالإضافة للهند: روسيا والصين وجنوب إفريقيا والبرازيل.
إن كلام جايشانكار هذا يشكل إعلاناً دولياً جديداً آخر صادر اً عن الهند، مضافاً إلى إعلانات روسيا والصين، بنشوء وتثبيت موازين قوى دولية جديدة تماماً، لا يشكل الغرب فيها جزءاً مركزياً لوحده، ولا تخضع للنظرات والإملاءات الغربية، أو فلسفتها ونظراتها الناتجة عن الموازين القديمة السابقة. ويؤكد مجدداً أن شكل العالم الجديد الذي يتشكل لن يخضع لقوة أو قوتين مسيطرتين، بل إنه يتجه إلى عالم متعدد الأقطاب، ينجح فيه كل واحد من هذه الأقطاب بالتوفيق بين مصالحه ومصالح الآخرين إلى تلك الدرجة التي تتلاشى فيها حدود هذه الأقطاب على حساب المصالح المشتركة لجميع شعوب هذا العالم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1074